الغلاء مثل الثراء، حقيقتان ملموستان في الخليج

الحديث عن غلاء المعيشة في دول الخليج صار من أبرز ما يتم تداوله ضمن تغريدات على تويتر أو منشورات على الشبكات الاجتماعية الأخرى. موجة الغلاء العالمي طالت الجميع، والخليج ليس استثناء. الحكومات تدعم الكثير من الأساسيات، لكن لا توجد دولة في العالم قادرة على أن تدعم كل شيء. لعل “دعم كل شيء” يمر بزيادات الرواتب، وهذا يدفع إلى المزيد من التضخم. التضخم هو آخر ما تريده دول الخليج الآن، ولهذا تتريث الدول في إقرار الزيادات في الرواتب، خصوصا للمواطنين.
لعل من أسباب ازدحام الآراء على السوشيال ميديا بخصوص غلاء المعيشة والمطالبة بزيادة الرواتب تداخل معطيات اقتصادية ومالية متضاربة في وقت واحد مما يشوش على الناس حقيقة الوضع.
الغلاء حقيقة ملموسة في كل مفردات الإنفاق الآن. المواطن الخليجي الموظف يرى أن الحل الوحيد يكمن في زيادة الأجور. وعلى عكس المواطن في دول غير نفطية، حيث من العسير على الحكومات توفير ميزانيات إضافية لزيادة الأجور، فإن الخليجي يفترض الوفرة القادمة من تزايد الريع النفطي ومن عائدات مضاعفة لمبيعات الغاز. ومما يعزز مثل هذا الإحساس، أن بعض الدول الخليجية تعلن بشكل يومي عن توسع في مشاريع كبرى بالمليارات لإقامة مدن ومصانع وبنى تحتية في قطاعات الطاقة خصوصا. المال إذًا متوفر، والفكرة تتزاحم نحو استنتاج أن من حق المواطن أن ينال حصته من هذا المال وبشكل مباشر يساعده على تجاوز أزمة غلاء المعيشة.
الغلاء الذي يواجهه الخليجي لا يختلف عن مثيله في دول العالم. الجفاف يزيد أسعار المحاصيل، والحرب تحجب الإنتاج الزراعي القادم من روسيا وأوكرانيا، وتذبذب ضخ الغاز والنفط الروسيين يرفع أسعار الوقود ممّا تترتب عليه زيادات في أسعار النقل تنعكس على كل شيء. لعل الاستثناء الوحيد في منطقة الخليج هو رخص الأيدي العاملة الوافدة، الآسيوية منها خصوصا.
◘ في الكثير من الحوارات التي تشهدها المجالس في الخليج، يتردد الحديث عن العودة إلى صيغة الإكثار من المشاريع التي ترسيها الحكومات على القطاع الخاص، طالما أن بوسع الحكومات أن تمولها من فائض الريع النفطي
إلى حدّ الآن يبدو الأمر في المستطاع. لكن مواجهة الغلاء بزيادات الأجور مهمة معقدة نظرا إلى تراكم تأثيرات انحسار المشاريع الحكومية، منذ أزمة 2008 المالية العالمية وإلى حد يومنا هذا. القطاع الخاص في الدول الخليجية متطور وفعّال. لكنه قطاع يعتمد بالدرجة الأولى على المشاريع الحكومية. ترسي الدولة المناقصات وتموّلها، سواء تلك المتعلقة بمشاريع البنى التحتية أو المتصلة بالتنمية، فيتحرك القطاع الخاص ويزدهر. ينكمش الإنفاق الحكومي، فينعكس هذا بسرعة على حجم فعاليات القطاع الخاص، بحجم الأعمال وعدد العاملين، وكل ما يتعلق بهم من أنشطة. الشركات الخليجية، سواء تلك التي تسعى لتوطين الوظائف أو التي تسرف في استقدام العمالة الوافدة، تواجه عسرا ماليا يرتبط بتراجع حجم المشاريع، عددًا بترسية عقود أقل، وقيمةً بأن تكون العقود أصغر من ناحية الكلفة والمستوى التنفيذي لها من خلال القبول بمواصفات أقل تتناسب مع خطط التقشف.
تقليص الوظائف، سواء منها الحكومية أو الخاصة، ينعكس بشكل كبير على حركة السوق. مغادرة الوافدين لوظائفهم -ومن ثم عودتهم إلى أوطانهم- تنعكس بالتأكيد على حجم التحويلات المصرفية. هذا مكسب آني مثلا في حالة توطين الوظائف. لكن ثمة دورات اقتصادية محلية يمتلكها المواطن الخليجي أساس نجاحها هو وجود أعداد كبيرة من الوافدين المنفقين. قطاع العقارات على سبيل المثال ازدهر على مدى عشرين عاما وأكثر في الخليج لعدة اعتبارات من أبرزها استقطاب المشترين من خارج الحدود، لكنّ ثمة استثمارا محليا كبيرا للمواطنين في الأبنية التي يسكنها الوافدون. كل وافد يغادر، سواء بسبب التوطين أو إلغاء عقده بحكم تراجع أعمال المؤسسات الحكومية أو الأهلية التي تشغّله، يترك شقة غير مسكونة وإيجارا ناقصا من دخل المستثمر المواطن. وما يقال عن الإيجارات يصح على كل مناحي الخدمات وحجم مبيعات التجزئة والأكل. ثمة الكثير من الأثرياء المستثمرين من المواطنين الخليجيين، لكنّ هناك أعدادا أكبر من صغار المستثمرين ممن يتدبرون مبالغ أولية للاستثمار، ويذهبون إلى المصارف لاستكمال البقية. اليوم صار الحديث عن عُسر تسديد أقساط القروض مألوفا في حديث المجالس في الخليج.
مثل هذا العسر ينعكس على منطقة الخليج بطريقة مختلفة عن انعكاسه في غيرها من المناطق. في النهاية هذه مجتمعات تعودت على الوفرة. تراجع الحديث عن توطين الوظائف بشكل كبير لأنه صار من الواضح أنه حل تبسيطي لمشكلة أكثر تعقيدا ترتبط بنمو سكاني وزيادة في أعداد الخريجين وطبيعة الشهادات الأكاديمية والمهنية التي يحملونها والاستعداد الشخصي لممارسة أعمال ومهن كانت حكرا على الوافدين. معادلة النمو التي تسعى بعض الدول الخليجية لإرسائها، وخصوصا في مشاريع المدن العملاقة في بلد مثل السعودية أو اللحاق بعجلة التنمية في بلد مثل الكويت، تتقاطع في الكثير من جوانبها مع تقليص العمالة الوافدة التي تسرّع العمل وتمنع تعثره لاعتبارات نقص اليد المتدربة. الشركات الخليجية حاولت العثور على تسويات مع الحكومات بخصوص استقدام العمالة، لكن لا توجد حلول كاملة إلى حد الآن، وهذا يزيد من مشاكل هذه الشركات وأصحابها ومنتسبيها في مواجهة العُسر المالي وانتظار التمويل والدعم الحكومي.
◘ الغلاء الذي يواجهه الخليجي لا يختلف عن مثيله في دول العالم. الجفاف يزيد أسعار المحاصيل، والحرب تحجب الإنتاج الزراعي القادم من روسيا وأوكرانيا، وتذبذب ضخ الغاز والنفط الروسيين يرفع أسعار الوقود
في الكثير من الحوارات التي تشهدها المجالس في الخليج، يتردد الحديث عن العودة إلى صيغة الإكثار من المشاريع التي ترسيها الحكومات على القطاع الخاص، طالما أن بوسع الحكومات أن تمولها من فائض الريع النفطي وتراكم عائدات الغاز. كانت هذه المعادلة مربحة لكثيرين، بغض النظر عن جدوى هذه المشاريع أو ما إذا كانت تنعكس إيجابيا على مسار التنمية. لكن الحكومات الخليجية حذرة جدا في “تبديد” هذه الأموال الإضافية. هذه الحكومات قد عانت كثيرا من أزمة 2008 وتراجع أسعار النفط وتقلص العائد من الاستثمارات في العالم. كان المبدأ لفترة، كما وصفه مسؤول خليجي رفيع، أن “مطوا الدولار الذي في جيبكم”.
مع غياب التفاصيل التي تقدمها الحكومات عن ميزانياتها، يترك المجال رحبا للّغط الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي. الزيادات التي تقرها بعض الحكومات الخليجية تخفف تأثيرات غلاء المعيشة. لكنها ليست زيادات للجميع، وتسمع شرائح اجتماعية كثيرة تتحدث عن وضعها المعيشي المتراجع، ولا يستثنى من هذا حتى المتقاعدون.
الغلاء وتدفق العائدات وضخامة المشاريع من جهة وانعدامها من جهة أخرى، حالة جديدة نشهدها في الخليج. من الواضح أن الكثير من المراجعات انطلقت، كما نلاحظ تعدد المجالس الوزارية والمناقشات الحكومية الدائرة والتخطيط لإعادة انطلاقة اقتصادية تتعامل مع عالم بمعطيات متغيرة. هناك الكثير من الأدوات المالية والاقتصادية بيد الحكومات الخليجية تستطيع من خلالها إعادة صياغة العلاقة بين المواطن وما تقدمه له الدولة. هذه بلاد قامت أولا على السلم الاجتماعي والتوافق، قبل النفط وبعده. حديث المجالس مهم، مثله مثل حديث السوشيال ميديا. من الضروري الانتباه لكليهما.