العيد: حيوية الهامش وخواء المركز

بمناسبة الأعياد الدينية تشهد تونس حيوية كبيرة، من أبرزها انتقال الآلاف من العائلات من المدن الكبرى إلى مناطق الداخل للمعايدة، حيث تقيم عائلاتهم الأصلية.
وإذا كانت الدولة تستعد لهذا الحدث الكبير من خلال حملات شرطية لتأمين الذهاب والعودة إلا أن ما يلاحظه الناس على الطرقات يظهر أن هذه الدولة، وخاصة ما بعد ثورة 2011، قد نفضت يديها من أي التزام تجاه حركة المد الكبيرة هذه؛ فالطرقات في أغلبها على غير ما يرام، لا تعهد بالصيانة، ولا بناء لطرقات عصرية إلا ما ندر.
يجد المسؤولون ألف سبب ليقنعوك بأن الدولة لم تقصّر، وهي تضع البرامج الكثيرة لتطوير الطرقات وتحسين الأوضاع في مناطق الهامش ضمن خطة لتثبيت سكان هذه المناطق في أرضهم وبين أهاليهم بدلا من أن يستقروا في أحزمة المدن ويتحولوا إلى عبء كبير على دولة فيها ما يكفيها من وجع الرأس.
خلال الأيام الثلاثة الموالية للعيد تدب الحياة في هذا الهامش المتروك، تتجدد فيه أشواق الناس لأهاليهم بعد أن فرقتهم “الخبزة” (رحلة البحث عن العيش الكريم)، في المقابل يفرغ محيط المدن الكبرى لأيام ثلاثة من ناسه الذين عمروه بالكد وبنوا فيه الديار وأنجبوا الصغار، لكن ظلوا مشتتين بين هؤلاء وهؤلاء.
بدأت الهجرة إلى المدن مبكرا منذ السنوات الأولى لدولة الاستقلال التي لم تكن قادرة على تقديم الخدمات الكافية لسكان الداخل، فهي دولة بلا مدخرات، ولا نفط، ولا معادن. كما أن هذه الدولة كانت أقرب إلى المدن فقادتها ووزراؤها كانوا من مدن الساحل ومحيطها. وكانت تلك المدن أولى بالدعم وبخطط التغيير الحكومي.
ومع مرور الوقت صارت المدن الكبرى محاطة بأحزمة بشرية جاءت إليها من المناطق الفقيرة في الشمال الغربي والوسط والجنوب. ولم تتعاطف الدولة للحظة مع هذه الحشود الطارئة، كانت تنظر إليها كنشاز يسيء إلى المدن ولأجل هذا قاومتها بقوة في ما بات يعرف بالحملة على “النزوح” التي قادتها حكومة رئيس الوزراء الراحل محمد مزالي خلال ثمانينات القرن الماضي.
كانت الخطة تقوم على توقيف الناس على الهوية، فمن لم يكن من المدينة يتم إيقافه آليا ويبيت في “التكية” ثم يرسل في اليوم الموالي إما إلى الجيش لتنفيذ أمر التجنيد الإجباري أو يعاد إلى ريفه القاسي. وكان المشهد وقتها شبيها بما يجري حاليا مع المهاجرين السريين إلى أوروبا، معارك كر وفر وظهور وتخفّ، ودولة لا تعرف سوى المقاربة الأمنية. لا تسمع سوى “الرافل جاء”.
تشكل جدار في نفوس النازحين بينهم وبين المركز/ الدولة. ورغم أنهم يسكنون المدن ويعملون فيها، إلّا أن ذلك الجدار يرفض أن يسقط ويعبر عن ذاته بشكل عنيف في مناسبات عديدة من خلال استهداف مؤسسات الدولة ورموز سيادتها وسيطرتها.