العمارة تجسيد مادي للمخيلة الذكورية

تمتلك الذكورة مُتخيّلا جمعيّا عن الجسد المؤنث وأشكاله، يظهر بوضوح في الأشكال الفنيّة والثقافيّة المختلفة، لكنّه متخفّ في تكوين العالم الماديّ، فالأبنية والطرق وتصميمها وتوزعها وكيفية الحركة ضمنها تسعى إلى ترسيخ هذا المتخيّل وجعله يتسلل إلى اللاوعي، ليكون العالم بمساحاته الخاصة والعامة أشبه بخشبة لاستعراض الجسد المؤنث وفرض أشكال محددة لظهوره.
تحضر أشدّ أشكال هذا المتخيّل في التصميمات والعمارة الحداثيّة، التي تعكس الهيمنة الذكورية على العالم في سبيل تحويله إلى تكوين ماديّ-صناعيّ ذي وظائف محددة، تخدم دورا اجتماعيا على حساب آخر، فالوظيفية التي يتبناها التصميم تميل نحو جعل “الرجل” ذا أثر في العالم وترك “المرأة” كـزينة ضمنه.
يقيم المركز الثقافيّ الكندي في العاصمة الفرنسيّة باريس معرضا بعنوان “غُرف متعددة” للفنانة الكنديّة شانون بوول، والذي تسعى فيه للكشف عن أثر المتخيّل الذكوريّ ضمن الأشكال الماديّة للعمارة والتصميم الداخليّ، والتي يظهر ضمنها المؤنث “إكزوتيكيا”، يتحرك بأسلوب يفرض عليه أن يمارس الغواية، وكأن حضور الجسد المؤنث في أي مكان يفترض أن يكون تحت مراقبة وتحديقة ذكر شهوانيّ مُتخيّل، احتمال وجوده قائم في أي لحظة.
توجه بوول في أعمالها النقد الشديد للمعماريّ الشهير لو كوربوزيّة، ومشروعه “مخطط أوبوس″ لتحويل الجزائر إلى عاصمة “حداثيّة” إثر زيارته لها في الثلاثينات، وسعيه لتصميمها لتكون عاصمة أفريقيا، إذ قام بشكل فرديّ، ودون أن يتم تكليفه به أو قبول مشروعه، بالعمل 11 عاماً على تصميم للمدينة مستوحى من بيئتها الطبيعية وحركة الناس ضمنها.
توجه بوول في أعمالها النقد الشديد للمعماريّ الشهير لو كوربوزيّة، ومشروعه "مخطط أوبوس" لتحويل الجزائر إلى عاصمة "حداثيّة" إثر زيارته لها في الثلاثينات، وسعيه لتصميمها لتكون عاصمة أفريقيا
كان كوربوزية مأسورا بطبيعة الحياة في الجزائر ورأى “العرب” أحرارا من نظام الشوارع والشقق التي تشتهر بها العواصم الأوروبيّة، لكن نظرته الاستشراقيّة تجاوزت ذلك، خصوصا بعد لقائه مع جوزفين بيكر الراقصة الاستعراضيّة الأميركيّة وإعجابه الشديد والفيتيشي بنساء الجزائر، ما جعل تصميماته مليئة بالانحناءات المشابهة لجسد المرأة.
وهنا يظهر اتهام بوول له بالتلصص والرؤية الاستعماريّة، والعنف الذي تمارسه مخططاته على جسد المرأة، لتبدو المدينة أشبه بتكوين ماديّ للهيمنة الذكورية البيضاء، وهذا ما نراه في مجموعة صور الكولاج التي أنتجتها بعنوان “قذيفة”، والتي تمزج فيها بين الصور الاستعماريّة لنساء الجزائر ومخططات كوربوزيّة للمدينة، لنرى أنفسنا أمام مزيج مرئيّ من المتخيل الاستشراقي واحتمالات تكوينه الماديّة.
توظف بوول مفاهيم اللاوعي وتسلل الصور من العالم إلى المخيّلة، ثم تجليها في الشكل المادي للعالم بأدق تفاصيله، وتعتمد مرة أخرى على تخطيط لكوربوزيّة بـاسم “ثلاث نساء” ومخططات المنازل التي صممها للجزائر وزخرفات السجاد البربري، لصناعة سجّدات تمزج ما سبق، في محاولة لكشف نظرة كوربوزيّة للمرأة بوصفها عنصرا تزيينيا ينتميّ للحائط دون أن تكون لها علاقة عضويّة مع المكان.
ذات الشيء في لوحة بوول “نساء في شقتهن” التي تمزج مخططات كوربوزية لحمام “فيلا سافويا” التي صممها في أطراف باريس، مع خطوط تكعيبيّة من لوحة بيكاسو “نساء الجزائر” مع أجزاء من جسد كيم كارداشيان، لنرى أنفسنا أمام خارطة للمتخيل الذكوريّ عن الفضاء الداخليّ وطبيعة تكوينه التي تعكس هوسا عمقا باستعراض المؤنث، وجعله موضوعة للغواية والخطيئة فقط وإشباع رغبة الذكر المُتخيّل المحدّق، ذاك الذي يترك أثرا حتى على مكونات العالم الطبيعيّة، ولكشف هذه التقنيّة التي مازالت حاضرة حتى الآن، تستحضر بوول كيم كارداشيان مرة أخرى.
لكن هذه المرة بالأثر الذي تركته صورها على الرخام، إذ نشاهد في المعرض منحوتة “عروق السكر”، التي تتكون من سطح رخامي عليه خطان يبدوان كخطين من الكوكائين، لكنهما ليسا إلا خطين من السكر، في إحالة إلى صورة تم تداولها لكيم كارداشيان اتهمت فيها أن الطاولة الرخاميّة خلفها تحتوي على كوكايين، ليكون جوابها “هي فقط عروق الرخام!”، لنرى هنا العلاقة بين تكوينات العالم الماديّ والمحدّق في الصورة الذي يؤوّل كل ما فيها بناء على الجسد المؤنث الظاهر فيه وتخيلاته عنه.
يدعونا المعرض للتأمل في العالم من حولنا ورواد تصميمه الذين جعلوه بهذا الشكل، لتظهر العمارة بوصفها تاريخا متخيّلا للعالم، ما إن نكتشف طبقاتها الداخليّة، ومجموعة الصور التي تسعى لتكوينها، ليتضح أمامنا تأثيرها على سلوكنا، فالنهضة الحداثيّة تحتوي ضمنها وبصورة غير واضحة تماما سعيا لتشييء الجسد المؤنث، ما يجعل تساؤلات مفاهيم الدور الاجتماعي أوضح كونها تواجه العالم بشكله الماديّ، وكأنه فخّ لا يتضح بدقة متى يقع فيه الفرد، إذ لا يكفي تغيير الكلمات والقوانين، بل لا بدّ أيضا من إعادة النظر بشكل العالم نفسه وبطرقاته وأبنتيه وغرفه ومساحاته العامة.