العلاج بجمالية المعمار

الجمعة 2016/06/10

من أطرف ما توصل إليه الفكر الإنساني، في عصرنا هذا، هو إعمال الفكر بشكل جدي من أجل سبر العلاقة المتبادلة بين الفضاء المعماري وبين بناء الذاتيات والهويات والعلاقات الاجتماعية بين البشر. وفضلا عن ذلك فقد توصل عدد كبير من المفكرين والمعماريين وعلماء النفس، المتخصصين في العلاج النفسي، إلى نتيجة باهرة تتلخص في أن هناك علاقة وطيدة بين المعمار وبين هوية الأشخاص والمجتمع.

بهذا الخصوص لاحظ مفكر ألماني أن الخراب في البيئة المعمارية يعني وجود خراب في نفسية هذا المجتمع أو ذاك. وفي عصرنا الحديث كشف عدد لا يستهان به من المعماريين وعلماء التحليل النفسي أن ثمة علاقة قوية بين جمالية المعمار وبين العلاج النفسي، وينطلق هؤلاء من قناعة مؤسسة على العلم أن الجمالية المعمارية تمارس تأثيرا قويا على إحداث التغيرات النفسية لدى البشر.

إن هذا الجهد الفكري ينطلق أيضا من فهم عميق وهو أن النفسية البشرية يمكن تشكيلها ومن ثم إعادة تشكيلها سلبا وإيجابا بواسطة الفنون الرفيعة منها الفن المعماري والشعر والموسيقى وغيرها من الفنون الجميلة.

وبهذا الخصوص فقد استنتج كوزيمو شينايا، وهو خبير متخصص في مجال تشخيص وعلاج الظواهر العدوانية عند المرضى النفسانيين، أن الجمالية المعمارية الرفيعة التي تتميز بها البنايات المختلفة، مثل المنازل والمحلات التي تكون الفضاء المادي للمجال العام، قادرة على أن تحول دون “توسع النشاطات العدوانية للأفراد” وأنها قادرة أيضا على أن تحتويها في آن واحد. وأكثر من هذا فقد أوضح هذا الخبير أن ثمة تشابها قويا بين الدور الذي يلعبه المعالج النفسي في إعادة بناء نفسيات الأشخاص الذين يعانون من عذابات الأمراض العقلية وبين العلاج الذي توفره البيئة المعمارية المتناسقة والمنسجمة لأفراد المجتمع.

على ضوء هذا نجد هذا الخبير يقترح على المهندسين المعماريين والمعالجين النفسانيين أن يقيموا علاقة الشراكة في التفكير حول تصميم مختلف البنايات حتى تكون فضاء غير مولد للعنف و”الخشونة والرتابة والإبهام والجلافة”. وتتبلور فكرته أكثر في قوله إن “إنشاء العلاقات المتواصلة والتفاعلية بين البنايات التي نسكن فيها يوميا- سواء كانت منازلنا، أو بنايات عامة مثل المدارس أو السجون، أو كانت فضاءات خاصة بالعلاج مثل المستشفيات، والعيادات، يمكن أن تكون مقياسا لدرجة تقدم المجتمع”.

ونجد المحلل النفسي أميركي الأصل وبريطاني الجنسية كريستوفر بولاس يولي أهمية بالغة للدور الذي يلعبه المعمار في تشكيل وعينا ولا وعينا الثقافي، وسلوكنا اليومي، وعلاقاتنا الاجتماعية، وإحساسنا بالوجود والفناء. ففي دراسته اللامعة “المعمار واللاوعي” يخلص إلى نتيجة مفادها أن العمل المعماري يستدعي قضايا رمزية مهمة من الحياة والموت.

كاتب من الجزائر مقيم بلندن

15