"العصيان" موضوع وجودي حول الاختيار الإنساني

يعيد الفيلم الجديد “العصيان Disobedience“ طرح إشكالية ما يسمى بـ”السينما اليهودية”، هذا المصطلح الملتبس الذي اعتاد الكثير من النقاد العرب على الخلط بينه وبين مصطلح “السنيما الصهيونية”. فبينما تعبر “السينما اليهودية” عن أفكار ومعتقدات الطوائف اليهودية (المتدينة تحديدا وخاصة ما يسمى باليهود الأرثوذوكس) أي تناقش المشاكل التي ترتبط بما يوجد في أجوائها من تعقيدات ترجع في الأساس- إلى التزمت الديني في البلاد التي تعيش فيها، تتناول “السينما الصهيونية” مواضيع تهدف إلى تجميل صورة إسرائيل وتبرير ظهورها ووجودها وممارساتها القمعية بشتى الصور والأساليب.
ينتمي “العصيان” إلى السينما اليهودية، لكنه يتوجه إلى المشاهدين في العالم في صيغة الإنتاج المشترك (بريطاني، أميركي، أيرلندي)، من خلال موضوع فلسفي يرتبط بقضية الحرية الفردية، أي حرية الإنسان في الاختيار، ومعاناته ما بين قيود التقاليد والعقيدة والموروث الديني والثقافي والأخلاقي عموما، وبين رغبته الدفينة في التحرر والتعبير الحر عن مكنونات النفس وعن المشاعر والأحاسيس مهما بدا أنها “خارجة عن الأطر”، أي مرفوضة دينيا واجتماعيا.
الفيلم من إخراج المخرج التشيلي سباستيان ليليو الذي لمع نجمه خلال السنوات القليلة الماضية بعد النجاح الكبير الذي حققه في “غلوريا” (2013) الذي حصل على جائزة الدب الفضي لأحسن ممثلة في مهرجان برلين، ثم “المرأة الرائعة” (2017) الذي حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي هذا العام. ويعتبر “العصيان” خاتمة ثلاثية ليليو عن المرأة التي تواجه بمفردها مجتمعا بطريركيا طاغيا يحد من طموحاتها ويقمع رغبتها في التحرر وتحقيق الذات.
“العصيان” مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة البريطانية (اليهودية) “ناعومي أولدرمان” اشترت حقوقها وأنتجتها وقامت بالدور الرئيسي في الفيلم الممثلة الإنكليزية (اليهودية) الجميلة راتشيل وايز (أغورا، سرطان البحر، شباب)، وكتب له السيناريو ليليو بالاشتراك مع ربيكا لينكوفيتش.
الشخصيات الثلاث
هناك ثلاث شخصيات رئيسية في الفيلم وعدد من الشخصيات الفرعية الأخرى، لذلك يتمتع بناء الفيلم بالسلاسة وسهولة المتابعة. والسيناريو يعالج موضوعه من خلال الشكل التقليدي مع لمسة من الميلودراما لكنها مقبولة في إطار الموضوع نفسه، خاصة وأنها ميلودراما محكومة لا تتصاعد فيها الأحداث في سياق يمتلئ بالمبالغات والمصادفات والأقدار.
تقوم راتشيل وايز بدور “رونيت” التي تمردت منذ زمن بعيد على تقاليد العيش في مجتمع اليهود الأرثوذوكس المتشددين في شمال لندن، وخرجت عن العائلة والعشيرة بل والمجتمع بأسره وذهبت إلى نيويورك تبني مستقبلها المهني كمصورة فوتوغرافية.
ولكن والد رونيت هو “الحاخام كروشكا” كبير حاخامات الطائفة اليهودية في الحي، يحظى من جانب الجميع باحترام كبير وتقدير خاص. ويظهر في المشهد الأول من الفيلم يلقي موعظة على أتباعه تتحدث عن الخلق الأول (آدم وحواء) وفكرة “الاختيار” التي ميّز بها الله الإنسان عن غيره من المخلوقات.
وخلال العظة، يسقط الحاخام ميتا، وتعود رونيت إلى لندن لتشارك في طقوس الموت، تطرق باب بيت صديقها منذ الطفولة “دوفيد” الذي يستقبلها بفتور كما هو شأن جميع الحاضرين داخل المنزل من أبناء الطائفة والأقارب.
إنهم ينظرون إليها نظرتهم إلى متمردة على العقيدة والتقاليد اليهودية خاصة وأنهم يرونها في ملابس قصيرة، تسدل شعرها الطبيعي الطويل على كتفيها، تدخن، تتحدث بحرية وبنغمة لامبالية. وستأتي صدمتها الأكبر عندما تعرف أن دوفيد تزوج من صديقتها الحميمة منذ الطفولة “إستي” (راتشيل ماك آدامز).
يتضح أن الثلاثي (رونيت، إستي، دوفيد) كانوا أصدقاء منذ الطفولة، وأن والد رونيت الحاخام الأكبر “كروشكا” (الاسم يشير إلى أصوله التي تعود إلى شرق أوروبا) تبنى دوفيد عندما كان صبيا في الثالثة عشرة من عمره وأصبح بمثابة المعلم بالنسبة إليه، وقد أصبح دوفيد الآن بعد أن درس التوراة والتلمود والتعاليم اليهودية وتعمق فيها، مرشحا لتولي مكان كروشكا ومكانته.
وقد أصبح بالتالي متحفظا في استقباله لرونيت فمن اللحظة الأولى عندما تحاول احتضانه يتراجع إلى الخلف، وأصبح ينظر إليها في تشكك، فهو لا يمكنه أن يفهم سبب عودتها الآن بعد كل تلك السنوات. ويذكر النعي الذي نشر في إحدى الصحف أن الحاخام المتوفى لم يترك وراءه أبناء، أي أن رونيت خرجت -لا فقط من حياة الطائفة- بل ومن حياة والدها أيضا.
سبب الصدمة
يمر بعض الوقت ونحن لا نفهم سبب صدمة رونيت عندما علمت بزواج صديقتها إستي من دوفيد. هنا يترك السيناريو مساحة للشك في أن رونيت ربما كانت على علاقة في الماضي بدوفيد قبل أن يتجه لدراسة الدين اليهودي، وربما كانت نظرات إستي إليها على مائدة الغداء وقبولها أن تقيم “رونيت” معها وزوجها في منزلهما تشي بنوع من التحفظ الذي يعكس قلقا ما، وراءه شعور بالغيرة.
أما الحقيقة فتظهر بعد ذلك عندما نعرف أن رونيت وإستي كانتا ترتبطان بعلاقة غرامية مثلية ملتهبة قبل سفر رونيت وابتعادها. وها هي عودتها الآن تفجر الموقف بأكمله، فإستي سرعان ما تفشل في السيطرة على مشاعرها، ورغم التزامها بالتقاليد اليهودية المتشددة (تضع فوق رأسها باروكة من الشعر المصطنع، وترتدي الملابس السوداء، وتصلي على المائدة قبل تناول الطعام) فستترك لمشاعرها العنان عندما تذهب مع رونيت لتفقد منزل والدها الذي يفترض أن ترثه فتعلم أنه تركه كما ترك كل ممتلكاته للمعبد اليهودي.
هناك بعض المشاهد الساخنة التي تصل للذروة عندما تذهب المرأتان إلى فندق في وسط لندن، حيث تختليان وتتركان لعواطفهما المجال في مشهد ربما كان يستدعي إلى الذاكرة مشاهد من فيلم “الأزرق أكثر الألوان دفئا” أو “حياة أديل” لعبداللطيف كشيش، غير أن الفرق الأساسي يكمن أولا في أن سباستيان ليليو لا يستغرق في تفاصيل التفاصيل داخل المشاهد الحسية ويترك للزمن أن يمتد طويلا، من خلال لقطات قريبة للأجزاء الحساسة في رغبة واضحة لتحقيق الصدمة “الإيروتيكية”.
فموضوع “العصيان” ليس تأمل العلاقة الحسية بين امرأتين بنوع من الاشتهاء أو الإعجاب من خلال عين مجرد رجل يتلصص عليهما بكاميراه.
ثانيا: يختلف فيلم “العصيان” عن فيلم كشيش في كونه فيلما أكثر جدية، فهو يطرح تساؤلات صادقة عن الاختيار الإنساني وعن التناقض الممكن بين الدين والحياة، من خلال موضوع ذي طبيعة رمزية إلى حد ما، لا يحمل بالضرورة مفهوما عاطفيا أخلاقيا، فالعلاقة بين المرأتين هنا هي رمز للاجتراء على المحظور الأخلاقي- الديني، ولا أهمية كبيرة لها على المستوى الشخصي العاطفي.
أما سؤال الاختيار فهو سؤال وجودي في الأساس، أي يتعلق بطبيعة الإنسان حتى حسب المفهوم الذي يروج له الحاخام في بداية الفيلم رغم أن هذا المفهوم في التسامح يخالف القسوة المفرطة التي تتميز بها العقيدة اليهودية خاصة في ما يتعلق بقضية الطلاق مثلا التي عولجت ببراعة وواقعية شديدة في الفيلم الإسرائيلي الممتاز “محاكمة فيفيان أم سالم” الذي أخرجته الراحلة رونيت الكابيتز مع شقيقها شلومو الكابيتز (سبق تناوله في “العرب”).
قسوة الحقيقة
من الذي سيتعين عليه مواجهة قسوة الحقيقة؟ رونيت تحاول في البداية إثناء إستي عن اندفاعها. وإستي لا تتنكر أبدا لزوجها، ولا لمبادئها والتزامها الديني، ولا تسعى لهجر حياتها وسط الطائفة أو “الجماعة اليهودية”، لكنها في الوقت نفسه تنشدُ الحرية، تريد أن تنال حقها في العيش بالطريقة التي تريدها وطبقا لمشاعرها الحقيقية، تريد أن تتحقق، وتخرج من إطار العيش القهري مع الرجل الذي تمارس معه الجنس كما نرى في المشاهد المبكرة، بطريقة روتينية آلية خالية من المشاعر والأحاسيس.
تساؤلات صادقة عن الاختيار الإنساني وعن التناقض الممكن بين الدين والحياة، من خلال موضوع ذي طبيعة رمزية
دوفيد يصبح رمانة الميزان في الفيلم، فهو يحاول أولا استعادة زوجته التي يحبها ويريد المحافظة عليها، ولكنه وهو التلميذ النجيب للحاخام الراحل صاحب وصايا حرية الاختيار الإنساني، ربما لن يملك أن يقاوم طويلا رغبة زوجته في الانعتاق.
هذا فيلم أفكار ومشاعر. فيلم صدمة بقدر ما هو فيلم رفض وتمرد وتحرر. إنه يعرض لمنطق الخيار الديني والتمسك بتعاليم التوراة حسب المفهوم السائد داخل الجماعة اليهودية بتقاليدها المتشددة. لكنه لا يميل إلى توجيه اللوم القاسي إليها، بل يترك للمتفرج الفرصة للحكم على الأمور بنفسه. والنماذج التي يقدمها من أفراد المجتمع اليهودي الأرثوذوكسي المتشدد ليست كلها سلبية تماما أو قاسية، بل هناك نموذج أو اثنان يتعاطفان مع رونيت المرفوضة عقائديا بحكم خروجها عن العائلة والطائفة.
إخراج سباستيان ليليو واثق، رصين، وصوره معبرة من دون إفراط في الاستعراض: مشاهد خارجية تدور في فصل الشتاء البارد، في شوارع لندن، مع طغيان اللونين الأبيض والرمادي على الصورة بحيث تكتسي بملامح الحزن والأسى وتتناقض في الخلفية على الأقل، مع تلك النيران التي اشتعلت مع لقاء المرأتين.
ولعل أكثر العناصر جاذبية في الفيلم عنصر التمثيل، فالممثلون الثلاثة الرئيسيون: راتشيل وايز وراتشيل ماك آدامز وأليساندرو نيفولا، يخوضون مباراة رائعة في الأداء بالحركة والإيماءة والنظرات ونبرة الصوت. ومشاهدة الممثلين وهم يتحركون ويتناوبون النظرات والإيماءات متعة لا تعادلها متعة أخرى.