"العرب" من الداخل.. هيثم الزبيدي والطريق إلى التأسيس الجديد

بوجود مدونة تحريرية واضحة وملزمة نجحت "العرب" في أن تحول صحافييها إلى مدراء تحرير يعرفون ما لهم وما عليهم ما ساعد على وجود مساحة كبيرة من الحرية في تنويع زوايا النظر.
الأربعاء 2025/05/21
رجل التفاصيل الدقيقة

من الصعب أن تكتب بحياد عن الرجل الذي تتحدث إليه وتناقشه ويمازحك وتمازحه في اليوم مرات كثيرة أكثر مما تتحدث إلى أهلك.

الدكتور هيثم الزبيدي، رحمه الله، كان قريبا من كل موظفيه ويهتم بتفاصيلهم وظروفهم مرورا بحارس المؤسسة والمرأة المكلفة بنظافة المقر والسائقين، وصولا إلى رؤساء الأقسام ومدراء التحرير والإدارة.

ويتيح هذا القرب لنا أن نفهم تفكير الرجل الذي قاد مؤسسة “العرب” لأكثر من عقد وطبعها بالكثير من الميزات والخصائص وجعلها تبدو في نظر الكثيرين الصحيفة العربية المهجرية الأكثر تحليلا وعمقا، تواكب الخبر دون أن تتعامل معه بصيغة السبق والنقل الحرفي، ولكن تعطيه بعده في علاقة بأحداث ومواقف أخرى وتعطيه الزاوية التي تمكّن القارئ من الربط.

ورغم أن الصحيفة لم تكن محايدة، ذلك أن لا حياد في الصحافة. لكن ذلك لم يمنع “العرب” من أن تعطي كل ذي حق حقه، وأن تقدم للقارئ قراءات دقيقة في صفحات الأخبار كما في صفحات الرأي عن آليات تفكير وخطط القوى الدولية والإقليمية في تعاملها مع منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

◄ سيكون على المؤسسة في غيابه الأبدي أن تستمر على نفس الطريق ونفس الثوابت مع الأستاذ محمد الهوني. وخاصة أن تحافظ على المصداقية

أن تقف في هذه القضية أو تلك ضد إيران أو ضد تركيا أو أيّ دولة أخرى لا يعني أن تقلل من دور هذه الدول أو تستخف به، على العكس من ذلك كان الدكتور الزبيدي، رحمه الله، يتشدد في هذه النقطة بالذات، ويدعو المحررين إلى التزام المصداقية في التحليل، وبذل الجهد من أجل صياغة تقارير ومواقف توفي كل طرف حقه، فليس من المهنية أن تحط من قيمة حزب أو حركة أو بلد لأنك تختلف معه فيما هو يعمل ويؤثر ويضع بصماته على قضايا مختلفة في المنطقة.

لكن تقديم صورة عميقة في التحليل والقراءة عن بلد ما لا يعني أن “العرب” كانت تريد أن ترضي الجميع. فهي بتحليلها لأدوار وأهمية القوى الإقليمية المؤثرة تريد من القارئ العربي أن يفهم خصومه من أصدقائه، معرفة عن وعي وفهم ليبني موقفه، ويختار في صف من يقف بدل أن يظل واقعا تحت تأثير إعلام الدعاية السياسية التي تشحنه بالشعارات.

كان أشد ما يستفز الدكتور الزبيدي، رحمه الله، هو ميل أحد المحررين إلى المديح الفج أو الانتقاد المشحون بحقد أو مواقف مسبقة، أو الاستنتاج المتسرع، ويعتبر أن دور الصحافي هو تقديم المادة التحليلية والاشتغال على الخلفيات وتقديم زاوية مختلفة ثم ترك القارئ أو المتابع ليستنتج ويبني الموقف الذي يرتئيه ويتناسب مع موقعه السياسي أو الفكري سواء توافق مع الصحيفة أو اختلف معها.

ويظهر نتاج هذه الآلية التحريرية بشكل أوضح في الصفحة الأولى، التي كان رئيس التحرير الراحل يعطيها الكثير من وقته وأفكاره وروحه من أجل رسم صورة عن الصحافة الجادة القادرة على منافسة سيل الأخبار اليومي الذي يملأ الفضائيات والمواقع. لم يكن يرضى بزوايا النظر الملتبسة بالشعارات أو بأولويات تصنعها بعض الفضائيات خدمة لتيارات أو أجندات إقليمية. كان يحثنا دائما على أن نفكر من خارج الصندوق الكلاسيكي.

◄ الدكتور الزبيدي نجح في التأسيس لمؤسسة مغايرة ومتمايزة عن السائد رغم محدودية الإمكانيات والصعوبات التي كانت تعترضه بشكل مستمر

وبدا هذا بشكل أكثر وضوحا في التعاطي مع جماعات الإسلام السياسي. كان هدف “العرب” جعل القارئ يفهم كيف تفكر تلك الجماعات انطلاقا من بياناتها ومواقفها المعلنة وكتبها وتصريحات قادتها. الهدف هو الفهم والتفكيك وتقديم المعطيات بشكل واضح ومفصل، وعدم استسهال الوسم بالإرهاب والتكفير أو نقل مواقف دون مصادر ذات مصداقية بما في ذلك ما ينشر في مواقع التواصل.

وتخصصت “العرب” منذ 2012 في المعركة مع التيارات المتشددة، وتعاملت مع الكثير من المختصين والخبراء وأنشأت صفحة خاصة تحت مسمى “الإسلام السياسي” وأخرى لـ”تسامح” لتقدم النموذج المقابل لخطط المتشددين، وانتصرت لمبادرات التسامح وعرضت نماذج لكثيرين عن ذلك شرقا وغربا لإعطاء القارئ فرصة حقيقية ومسنودة لتجارب وتحاليل ليقوم بنفسه بالمقارنة، وهذه هي مهمة الصحافة خاصة أن الأمر يتعلق بقضايا يتداخل فيها الديني بالسياسي والتاريخي وتهيمن عليها الفتاوى الجاهزة التي هي أقرب إلى أفكار داعش والقاعدة. وللمفارقة، فإن مؤسسات دينية رسمية تعيد إنتاج هذه الثقافة.

كان الدكتور الزبيدي يقول لنا دائما إن أفضل خدمة تقدمها للمتشددين أن تقول فيهم كلاما عاما دون دراية أو أن تستسهل إصدار أحكام ضدهم استنادا إلى موقف هذه الدولة أو تلك، وهو ما يساعدهم في الاشتغال على المظلومية التي صعدوا بها إلى الواجهة.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن “العرب” نجحت بوجود مدونة تحريرية واضحة وملزمة في أن تحول صحافييها إلى مدراء تحرير يعرفون ما لهم وما عليهم، ما ساعد على وجود مساحة كبيرة من الحرية في اختيار المواد وتنويع زوايا النظر ضمن الخط التحريري العام للمؤسسة، دون حاجة إلى تدخل من إدارة التحرير في التفاصيل الصغيرة. لكن هذه الحرية لم تكن تعني التأسيس للفوضى أو لصفحات في جزر متنافرة، كان رئيس التحرير ومدراء التحرير يقفون هنا بالتحديد لحماية الحرية الواسعة وضمان اندراجها في مقاربة “العرب” كصحيفة بهوية واضحة والتزام فكري وسياسي في مقاربة مختلف القضايا.

◄ رغم أن الصحيفة لم تكن محايدة، ذلك أن لا حياد في الصحافة. لكن ذلك لم يمنع "العرب" من أن تعطي كل ذي حق حقه، وأن تقدم للقارئ قراءات دقيقة في صفحات الأخبار كما في صفحات الرأي

وتتضح مساحة الحرية بشكل أوضح في صفحات الرأي المفتوحة لأصوات ومواقف مختلفة تعبر أحيانا عن مقاربات متناقضة في النظر إلى قضايا الإقليم. كان ذلك يتم بحرص شخصي من الدكتور الزبيدي، الذي لم يكن يريد لـ”العرب” أن تكون ناديا مغلقا يؤثثه عدد محدود من الكتاب المعروفين.

فتحت “العرب” الباب واسعا أمام الكثير من الكتاب مشرقا ومغربا ومن كل الدول العربية ومن المهجر للكتابة وفق ضوابط دقيقة شرط أن يكون المحتوى ذا قيمة ويناقش قضية واضحة وليس مجرد استعراض أفكار وشعارات أو تصفية حساب شخصي أو حزبي أو تنفيذ أجندات هذه الدولة أو تلك.

بهذه المقاربة نجحت “العرب” تحت قيادة الدكتور الزبيدي في أن تصنع نموذجا لصحافة الفكرة والقيمة والمستوى المتطور، وظهر هذا كذلك في “الجديد” المجلة الثقافية التي تصدرها مؤسسة “العرب”، والتي تحظى باهتمام كبير بين المثقفين والدارسين والجامعيين كتجربة فكرية وثقافية مغايرة.

ولأجل كل ما تقدم وغيره كثير، نجح الدكتور الزبيدي في التأسيس لمؤسسة مغايرة ومتمايزة عن السائد رغم محدودية الإمكانيات والصعوبات التي كانت تعترضه بشكل مستمر.

وسيكون على المؤسسة في غيابه الأبدي أن تستمر على نفس الطريق ونفس الثوابت مع الأستاذ محمد الهوني. وخاصة أن تحافظ على المصداقية، التي ارتبطت بها منذ المؤسس الأول الحاج أحمد الصالحين الهوني، فهي صحيفة العرب جميعا، تشيد بالنجاحات وتسجل مؤاخذاتها ونقدها بطريقة هادئة وغير عدائية مع احترام المقامات وخصوصيات الدول ورموز سيادتها، مع الانتصار للتجارب الأكثر مصداقية، التي تبني ولا تهدم، وتصب في صالح العرب، وتقف بوجه التيارات الهدامة والمؤامرات.

9