العرب تقتات السَّوْفَ

عملت العرب على تقعيد اللغة العربية حروفا وكلمات وجملا حتى بلغت التعقيد في صرفها ونحوها، وإذا كان سيبويه مات وفي نفسه شيء من حتى، فنحن اليوم نموت ونحيا بـ”سوف”.
أنا شخصيا تعلمت الجمل الشرطية في ثلاث لغات بمثال واحد "إذا نجحت في الامتحان فسوف أشتري لك دراجة"، لم يشتر لي أبي دراجة فتوقفت عن دراسة اللغة الرابعة.
والتسويف مرض عربي يقول عنه الخال "تشات جي بي تي" هو سلوك يتمثل في تأجيل القيام بالمهام أو الواجبات المطلوبة إلى وقت غير محدد، وتقول العرب، فلان يقتات السَّوْفَ أي يعيش بالأماني.
و"سوف" حرف مبنيٌّ على الفتح يخصِّص أفعال المضارعة للاستقبال البعيد، فيردّ الفعل من الزمان الضيّق وهو الحال إلى الزمان الواسع وهو الاستقبال وهو يقتضي معنى المماطلة والتأخير.
والتسويف يسكن كل بيت عربي فمن منّا لم يعده أهله بشيء لم يتحقق له حتى راحوا، و"سوف" كلمة على لسان كل سياسي عربي.. هي الكلمة السحرية التي لا تحتاج إلى تحديد أهداف واضحة وتحديد مواعيد نهائية لها.
في بلدي وعدنا السياسيون حتى أخذتنا وعودهم على أجنحة إلى جنة على الأرض لا نستفيق منها إلا إذا رحلوا وقدم آخرون "سوّافون" بالضرورة.
كم تمنيت لو كانت هناك انتخابات في هذا القيظ، حتى يطل علينا السوّافون من منابرهم واعدين إيانا بمكيّفات مجانية لكل بيت ومثلجات لذيذة لأطفالنا ومرشات ماء بارد للمارة في الشوارع، وبطيخ مربع ينعش الفؤاد نأخذه هدية بسيطة لأمهاتنا، ومراوح مزركشة لكل مزارعة تذوب تحت الشمس لتقطف رزقا قليلا.
كذبُ السياسيين حلو، فهم قادرون على بناء أبراج عاجية لكل الفقراء، ومستشفيات خمس نجوم لكل المرضى، وبناء مدارس وكليات في الصحراء القاحلة، وزراعة الأزهار في كل مصبات القمامة وصناعة أطراف ذهبية لذوي الاحتياجات الخاصة.
خيالهم واسع في التسويف، فلا نستغرب لو طلع علينا أحدهم قائلا سيشتري لنا السحاب المُصنّع في الصين أو دول الغرب ويجعله مطرا يلطف الأجواء في عزّ الظهيرة.
هم يحبوننا كأطفالهم لذلك يعدوننا ببحر تسبح فيه مكعبات الثلج ورمال صافية لا تؤذي الأقدام على الشاطئ.
والتسويف عند الآباء من قلة ذات اليد ووعد صادق قد يتحقق إذا توفر شيء من المال.. أنا أنصحهم بالتوقف عن الإنجاب حتى لا تحترق فلذات أكبادهم في تنور الصيف، أما التسويف عند السياسيين فهو من قلة ذات المبدأ المدعوم بربطة عنق وحذاء لامع.
لاحظوا أنني لم أتحدث عن وعود السياسيين للشباب بالشغل والزواج لأن الإدارات والمكاتب امتلأت بالموظفين والمقاهي امتلأت بالعاطلين عن العمل، فالتشغيل كذبة لا تنطلي حتى على المغفّلين.