العالم الافتراضي مكان مؤقت أم دائم للأنشطة الثقافية والفنية

في ظل جائحة كورونا اتجهت الكثير من المؤسسات الثقافية والفنية العربية إلى شبكة الإنترنت للتواصل مع الجماهير ومحبي المعرفة وعشاق الفنون، ووفرت المنصات الافتراضية أروقة ثقافية هامة ومفتوحة وحرة للجميع، ولكن هذا الانتقال إلى الافتراضي على أهميته فإنه ربما لن يكون مؤقتا، إذ يتخوف الكثير من المثقفين والمبدعين والجماهير من غياب الفعاليات الواقعية التي تبقى هي الأصل. حول هذه التساؤلات وغيرها استطلعت “العرب” رأي كتاب ومثقفين عرب ومصريين فكان هذا التحقيق.
منذ أن اجتاح فايروس كورونا العالم أواخر العام 2019 وأوائل العام 2020 توجهت الفعاليات الثقافية في مختلف الدول العربية إلى الفضاء الإلكتروني عبر الوسائط الافتراضية ومنصاتها، والآن نشهد الملتقيات والندوات والأمسيات تقام عبر مختلف المنصات التي تقدمها زوم وغيرها.
ونتساءل هنا إلى أي مدى يبلغ ويصل تأثير إقامة الفعاليات على هذه المنصات على الجمهور المستهدف؟ وهل يمكن أن تكون يوما ما بديلا حقيقيا عن المواجهة الحقيقية مع جمهور مشاهدين؟
حلول اضطرارية
بداية يحدد الكاتب والمؤرخ خالد عزب رؤيته في ثلاث نقاط كاشفة، يقول “أولا هذه استجابة رسمية من السلطات الثقافية تحت ضغط فعل ضرورة التواجد. ثانيا النخب التي تتحدث مع نفسها عبر هذه المنصات في ندوات أو مؤتمرات مغلقة تتحدث إلى نفسها عبر وسائط جديدة بالنسبة إلى جمهور المتلقين سواء من الكتاب أو المثقفين أو عموم المهتمين من المتلقين. ثالثا هناك واقع ثقافي جديد يتشكل منذ 2001 من أجيال جديدة ذاع أمرها واشتهرت ولها متابعون كانوا قليلين والآن بالآلاف. وبناء على ذلك فإن الاستجابة هل هي رد فعل أم فعل ثقافي حقيقي؛ في حقيقة الأمر هي رد فعل وبالتالي بقي على الإعلام البحث عن النخبة الجديدة بدلا من اللهاث وراء نخب طواها الفضاء الرقمي والزمن”.
ويرى الناقد المسرحي عصام أبوالقاسم أن اللقاء الحي سيبقى هو الأهم للبشر كما كان دوما تحت كل الظروف، خاصة في مجال المسرح. وهذه الخاطرة ترد إلى البال عند تأمل ما جرى مع استخدام هذه المنصات الإلكترونية خلال الفترة الماضية، فلقد كان حجم التفاعل الجماهيري ضئيلا جدا، وكان البث متعثرا والصورة متقطعة أو باهتة والمتكلم مشوشا أو مرتبكا.

عمار الثويني: الفعاليات المقامة عن بعد حققت لدرجة كبيرة النتائج المرجوة
خالد عزب: هناك واقع ثقافي جديد يتشكل منذ 2001 من أجيال جديدة
شادي كسحو: البدائل الافتراضية للتفاعل والحوار أدخلتنا إلى لحظة تساؤل
أحمد عباس: الانتقال إلى الفعاليات الافتراضية رب ضارة نافعة
عبداللطيف فردوس: للجائحة إيجابيات منها أنها وطدت العلاقات الإنسانية الافتراضية
ويضيف “صحيح هذه مشكلات يمكن أن تحصل حتى على مستوى العروض الواقعية أو المباشرة، ولكنها تبدو أثقل مع هذه الوسائط الافتراضية. تبدو مجسمة ومهولة ومحرجة أكثر، لقد استخدمت هذه الوسائط وسوف تستخدم في ظروف استثنائية ربما تستثمر بشكل إبداعي لتكون ملمحا من نشاط ما في المستقبل، لكنها لن تكون بديلا لأسباب عدة منها: تفضيل الناس الفضاءات العامة والانتقال بين الأمكنة، واللقاءات الحية والفرص والمصادفات غير المتوقعة واختبار تجارب جديدة ومغايرة الخ. وكذلك هناك بعض الأسباب التقنية فهذه المنصات تستلزم بنية تحتية تفتقر إليها العديد من البلدان العربية، وفي المستقبل لا أحد يعلم كم سيكون سعرها وإلى أي حد يمكن أن تصل شروط استخدامها والتنفع بها”.
أما الروائي عمار الثويني فيقول “تشكل المنصات الإلكترونية التي برزت بشكل كبير في الأزمة التي عصفت بالعالم بسبب جائحة كورونا وشلت تقريبا الحراك الدؤوب سابقا كما هو معروف الخيار العملي الوحيد تقريبا لديمومة الفعاليات الاقتصادية واستمرارية اللقاءات والمؤتمرات. كان خيارا اضطراريا فهذا العالم الذي كان يسير بسرعة البرق لن يتوقف أو يستسلم مهما كانت الجائحة شرسة لذلك فتحت التقنيات الجديدة التي أنجبتها تبعات فايروس كوفيد ـ 19 كوة في الجدار الموصود بقوة”.
ويتابع “شخصيا وجدت أن معظم هذه الفعاليات المقامة عن بعد قد حققت لدرجة كبيرة النتائج المرجوة ربما ليس على صعيد المردود الاقتصادي بل على صعيد الحضور والتفاعل، فبعض هذه الفعاليات أصبحت متاحة للجمهور للوصول إليها ومشاهدتها والتفاعل معها مجانا، وبشكل مباشر مع المنظمين. أضف إلى ذلك أسهمت هذه المنصات مثل زووم في توفير خيار فعال وعملي جدا للكثيرين وشجعتهم على إقامة اللقاءات والحوارات والنقاشات بكل يسر وسهولة، وفي الأوقات الملائمة فالأمر لا يحتاج إلى قاعات وأماكن حجز ودعوات وبروتوكولات ودعاية وإعلان. فكل شيء يجري في فضاء الإنترنت الرحب وعبر روابط متاحة في صفحات التواصل الاجتماعي المتعددة مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام”.
ويضيف الثويني “بالنسبة إلى توقع أن تكون هذه المنصات بديلا عن اللقاءات المباشرة مستقبلا فلا أعتقد ذلك على الرغم من المنافع العديدة التي توفرها للمنظمين والمتحدثين والمشاركين. ولعل أحد أسباب ذلك هي الحاجة للتواصل المباشر بين الشخصيات الثقافية مع الجمهور خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الفعاليات المصاحبة للقاءات والمؤتمرات مثل تدشين إصدارات جديدة أو إقامة حفل توقيع وغيرها من الفعاليات. أضف إلى ذلك فإن حضور ملتقيات ولقاءات يشكل فرصة للشخصيات المشاركة للسفر والاطلاع بشكل مباشر على ثقافة تلك الدولة. وفي المقابل فإن إقامة هذه اللقاءات تعود بمنافع اقتصادية كبيرة للمنظمين مثل السفر والحجوزات الفندقية والإقامة إضافة إلى استقطاب عدد ليس بالقليل من الحضور، ما يعود بمردود اقتصادي ومالي كبيرين.
ويشير المسرحي المغربي عبداللطيف فردوس إلى أن الإنسانية عاشت ابتداء من يناير 2020 تحت وطأة جائحة كورونا. تحولت حياتنا إلى متابعة وتعلق بالأرقام: عدد الإصابات، عدد الحالات الحرجة، أعداد الموتى الذين يدفنون تحت إجراءات خاصة منعت الجنائز العمومية ومرافقة الميت، تباعد، كمامات، تجنب المصافحة، منع للتجمعات والأعراس والحفلات والمسرح والسينما، وتوقيف المقابلات الرياضية، وحتى وبعد إن عادت، كانت دون جمهور. السفر أصبح مشروطا برخصة للتنقل.
ويلفت إلى أنه بالرغم من هذا الضغط النفسي الرهيب كان لزمن كورونا إيجابيات منها أن هذا الفايروس وطد العلاقات الإنسانية الافتراضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كثرت اتصالاتنا، وتعددت الورشات التكوينية، والمحاضرات، والندوات، والوصلات الفنية، والعروض المسرحية عن بعد عبر هذه المنصات، وإن كنا لا نعرف عدد المتتبعين الحقيقيين ولا نستطيع أن نميز نوعية تتبعهم لهذه الأنشطة.
المهم، في رأيه، أن الإنسان استطاع أن يجد وسائل لكسر الحجر الذي فرضه عليه الوباء، وإن كنا لحد الآن لسنا متأكدين من أن اللجوء إليه كان عاملا أساسيا في محاصرة الفايروس، لكن الأكيد أنه حاصرنا وكاد أن يخنق أنفاسنا.
وأمام هذا الواقع المفروض كانت الوسائط الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعي لوحة النجاة التي تمسك بها الغريق ريثما يصل اليابسة ليعود إلى حياته الطبيعية. الغريق لا يخشى البلل، هكذا أقنع المعارضون للتواصل في شكله الجديد أنفسهم، اعتبروه استثناء وليس قاعدة. قبلوا هذه التقنية رغم سلبياتها خاصة من حيث جودة عرض المنتوج التي تتدنى لتلامس درجة الصفر: صورة رديئة، صوت متقطع أو غير واضح وهكذا. لا أتمنى أن تصبح المنصات خاصة في المسرح بديلا للقاء الإنساني المباشر. لا أستطيع أن أرى رقبة الفن تحت مقصلة التكنولوجيا.
رب ضارة نافعة
يميل المفكر السوري شادي كسحو للتعامل مع أسئلة المرحلة المربكة بكثير من الحذر، يقول “الإبدالات الجديدة التي أتاحها الفضاء الافتراضي في زمن الوباء تحمل عدة مستويات للقراءة. لقد حقق التواصل الافتراضي عبر الكثير من المنصات الشهيرة نجاحا حقيقيا، فلا يمكن تجاهل هذا الإشهار المجاني والفعّال للذات الذي خلق لحظة تواصل مباشر مع الجمهور، وأتاح بدائل افتراضية للتفاعل والحوار. يمكن القول بطريقة أخرى: لقد دخلنا مع منصات التواصل الاجتماعي لحظة جديدة من ‘الشاشاتية‘ حيث كل شيء مباشر وفوري ويجري عبر النقر واللعب الحي فوق السطح الافتراضي”.
ويضيف “نعم، لقد أتاحت لنا التقنيات الجديدة التي تتزامن مع تفشي وباء كورونا فرصة غير معتادة للظهور والتأثير، لكن الأمر ليس بهذه البساطة أيضا، فلقد أصبحت الشاشات ومنصات التواصل في كثير من الأحيان امتدادا لأنفسنا ذاتها وهذا بدوره يطرح أسئلة بمنتهى الإلحاح والخطورة: فمن هي الذات التي يتم تمثيلها عبر المنصة؟ هل هناك فرق بين ما أنا عليه وبين ما يجب أن أمثله وأكونه؟ لا يمكن الإجابة عن أسئلة كهذه باستعجال، ولكن يمكن القول: لقد أعادت منصات التواصل خلق الزمن من جديد وقامت باستحداث سرعات جديدة للفهم والإدراك. إن الانتقال من عالم صلب قائم على الحوار الفيزيائي إلى عالم ليزري يُنظر إليه عبر الشاشات لا بد أن يترك أثرا كبيرا على رؤيتنا ووعينا بأنفسنا، بل ولا بد أنه سيسهم في إعادة تعريف وفهم معنى المشاهدة ومعنى الحوار ومعنى الحقيقة ذاتها“.
ويرى الشاعر اليمني أحمد عباس أنه ربما نستطيع هنا أن نطلق عبارة “رب ضارة نافعة” ونحن مطمئنون تماما، فعلى الرغم من حالة القطيعة التي خلقها كورونا بين البشر، إلا أنهم لم يعجزوا عن إيجاد البدائل التي تمكنهم من التواصل في مختلف مناحي الحياة، وفي ما يخص الحالة الثقافية العربية، وبالرغم من إصابتها بحالة الشلل شبه التام التي توقفت على إثرها الفعاليات والمنتديات الثقافية العربية، إلا أننا وجدنا بارقة أمل من خلال الندوات والفعاليات والأمسيات الافتراضية التي بدأت على استحياء، وما لبثت أن توسعت لتشكل بديلا حقيقيا يغني عن التواصل المباشر مع الجمهور.
ويضيف “المتتبع لهذه الندوات والفعاليات منذ بدايتها يلاحظ خطواتها المتسارعة، ففي بداياتها كان المشاركون في هذه الفعاليات هم المعنيون بها وبمتابعتها، ولكن مع تتابعها وإقامتها من قبل عدد كبير من المهتمين، بدأ الجمهور بمتابعتها وبأعداد أكبر بكثير مما لو كانت هذه الفعاليات تقام بشكل حقيقي ومباشر مع الجمهور، وبما أن الجمهور المهتم بالثقافة هو الذي سيذهب للندوة التي تقام في مكان محدد وبسعة محدودة هو المعنيّ بالفعالية غير الافتراضية، لكننا هنا أمام جمهور جديد لفتت نظره هذه الفعاليات المقامة بشكل افتراضي”.
ويتابع عباس “يمكننا المقارنة هنا بين جمهور السينما الذي سيذهب لمشاهدة الفيلم وقت نزوله في الصالات والذي مهما كان عدده فلا يمكن مقارنته بعدد المشاهدين لنفس الفيلم عندما يعرض في التلفزيون، لن تنتهي الندوات الحقيقية وستعقد أمام جمهور حقيقي، لكنها ستصبح ثانوية أمام العروض الافتراضية التي تصل لجمهور أكثر وتوفر المال والجهد والوقت أيضا”.
ويرى أن الندوات المباشرة مع جمهور حقيقي سيتم نقلها إن أقيمت عبر هذه المنصات أيضا التي أحدثت فرقا حقيقيا، وأوصلت صوت المثقف لمستويات مختلفة من الجمهور، ونحن في دار عناوين بوكس لنا تجربة، فقد أقمنا ندوتين افتراضيتين حققتا نسب مشاهدة كبيرة جدا، ما كانت لتتحقق لنا لو أقمناها بشكل حقيقي، وفي قادم الأيام حتى بعد انتهاء الجائحة لن نستغني عن إقامة هذه الندوات بشكل افتراضي، وإن كان لكورونا من حسنات فهذه الهجرة للمنصات الإلكترونية على رأسها.
المنصات الرقمية تشكل الخيار العملي الوحيد لديمومة الفعاليات الاقتصادية واستمرارية اللقاءات والمؤتمرات
ويقول الشاعر والمترجم عاطف عبدالمجيد إنه في ظل التقدم التكنولوجي المتسارع، لا ينبغي أن نستصعب حدوث أي شيء، أو أي تغيير في طقوس وتفاصيل حياة البشر عموما. ربما تكون اللقاءات الحية وجها لوجه مفيدة وحيوية، لكن حين نرى أنه بإمكاننا أن يأتي كل شيء إليك حتى مقعدك الذي تجلس عليه في بيتك.
ويتابع “خذ مثلا لو أنك تعيش في مدينة مزدحمة كالقاهرة عليك أن تستهلك ثلاث ساعات على الأقل في المواصلات لكي تحضر أمسية أو فعالية معينة، دون الخوض في التعب والإرهاق الذي سينال من الشخص حين يفعل هذا. في ظل هذا يبدو الجلوس في المنزل وحضور مثل هذه الفعاليات أكثر راحة وتأثيرا. ثم لا ننسَى أن القادم هو زمن الإنترنت والعزلة. بالطبع ليس بعيدا أن تصبح المنصات الإلكترونية بديلا حقيقيا قويا عن المواجهة مع الجمهور، خاصة وأنها أكثر راحة وتوفيرا للجهد والنفقات.. نحن الآن في عصر الشاشات ولسنا في عصر المناضد“.