الظامئون لا يتذمرون من المطر

يتعرف سكان المدن الكبرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هذه الأيام على المطر. وإلى وقت قريب كان المطر بالنسبة إليهم مصدر إزعاج. يهطل المطر فتفيض الشوارع بالماء ويتعذر السير في الأزقة. وفي المدن التي لم تستكمل تعبيد طرقاتها، أو لم تشيد شبكات صرف المياه في الطرقات على أساس سحب سيل الماء الذي يزداد بزيادة نسبة الهطول، يتحول الماء إلى طين يزيد من مشاكل الناس.
ثم جاء الجفاف في الأعوام الماضية، وبلغ ذروته هذه السنة. الجفاف لم يعد شأنا فلاحيا. الفلاحون يشتكون من قلة المطر منذ سنوات. وجزء أساسي من تدفق أهالي الريف على المدن كان سببه تراجع المساحات المزروعة الناتج عن نقص المياه. وعلى مدى عقود طويلة ظل الحديث عن حصاد الماء وتشييد السدود والسواتر التي تحبس السيل وتوجهه نحو المنخفضات للاستفادة من المياه المتجمعة، مجرد حديث. وأمعنت دول المنطقة في إهمال مشكلة المياه رغم زيادة درجات الحرارة والانفجار السكاني. وزاد الاستثمار في التشييد العقاري وانعدم تقريبا في السدود والنواظم وما يخدم الزراعة.
تصرفت الدول على أساس أن الرضا الشعبي هو رضا أهل المدينة. الثورة السورية تعتبر من نتائج الهجرة الداخلية من منطقة شرق سوريا والجزيرة. غضب الريف وصل إلى المدينة فأشعلها. إنذار لم تنتبه إليه أغلب الدول التي تصرفت على أساس أن استيراد الحبوب الرخيصة من الخارج أفضل من الاستثمار في السدود والزراعة.
ثم توالت الإشارات والدروس. كان الدرس الأول هو حرب أوكرانيا. شحت الحبوب وزادت أسعارها. وجاء الدرس الثاني من الجفاف هذا العام، فلا حبوب رخيصة متوفرة ولا مياه تكفي لاستهلاك مدننا المليونية المتكاثرة. بطون خاوية وقلق مائي.
خلال الصيف الماضي صار قطع المياه شيئا مألوفا في مدن ودول لم تكن تعرفه. بعض دول المنطقة تعودت على قلة مياه الشرب وانقطاعها، غير أن الأمر ظل مرتبطا بسوء الاستثمار في البنى التحتية وإعادة التدوير. لكن هذا العام اختفى الماء فعلا من الخزانات وصار لزاما تقنين التوزيع، والقطع المنظم. المشكلة مشكلة مياه وليست سوء تنظيم وإدارةٍ.
تراجع مناسيب المياه في الخزانات أصبح حقيقة الآن. الأنباء القادمة عن نتائج كوب 28 وتأثيرات حرق الوقود الأحفوري على المناخ والجفاف ودرجات الحرارة صارت جزءا من اهتمام كل واحد منّا.
دعها تمطر ولن يشتكي أحد بعد اليوم من انسداد الطرقات بالمياه. جربنا هذا الصيف شكل المستقبل الذي زحف إلينا من الصحراء إلى الريف وها هو يصل إلى المدينة. مستقبل جاف يندر فيه الماء. أهلا بالغيث، فالظامئون لا يتذمرون من المطر.