الطيب الطويلي: لا أسس متينة للإسلام السياسي داخل المجتمع التونسي

تونس – تواجه تونس، كغيرها من دول العالم العربي، خطر الإرهاب وما يحمله من عقائد متطرّفة ونهج تكفيري متعصب ونمط دموي مدمّر، لا يحتاج إلى عمليات عسكرية لمحاربته بقدر ما يحتاج إلى استراتيجيات خاصة تنبع من أعماق المجتمعات المتضرّرة وخصوصيتها التاريخية والمجتمعية والثقافية والسياسية.
ويشير الباحث، في هذا السياق، إلى أن عدد السلفيين في تونس لم يتناقص رغم الحملات الأمنية وإنما واصل هؤلاء عمليات الاستقطاب والتجييش؛ وطريقتهم في ذلك إما محاولة استيعاب الطامعين في الثروات والسلطة، وهؤلاء يتم استعمالهم في التخطيط والتجنيد والدعم اللوجستي، أو محاولة استيعاب العامة الذين لا نصيب نقدي أو فكري لهم، حتى يتمكنوا من صبّ كل الأفكار التي يودون صبّها فيهم دون مقاومة فكرية وبالتالي يكونون أفضل وقود لعملياتهم.
ولا يتوقّع الطيب الطويلي، المختص في علم الاجتماع، أن يكون للإرهاب مستقبل في تونس، على المدى البعيد، ذلك لأنه صنيعة لتقاطعات مصلحية أفرزتها قوى ومصالح إقليمية ودولية متضاربة، وستندثر مباشرة مع اندثار العلل والأسباب المكونة لهذه الظاهرة، خاصة وأن كل ما يتعلق بالإرهاب من أيديولوجيا ومن معتقدات ومن لباس أو سلوكيات أو غيرها لا يمثل أي ثقل اجتماعي أو حضاري في تونس.
شهدت تونس، منذ 2011، عمليات إرهابية خطيرة، كانت لها تبعات وخيمة على أكثر من صعيد. وفي تقدير الطويلي، يقابل نجاح هذه العمليات مظاهرة فشل على مختلف الأصعدة. أولها الفشل الأمني الذي وجب معه القيام بالتحقيقات الضرورية لمعرفة مواطن الخلل الأمني والمسؤولين عنه؛ ثم الفشل الإعلامي الذي يكمن في التقصير في نقل المعلومة أو الكشف عنها. ويستحضر هنا تصريحات الإعلامي معز بن غربية، التي مثّلت الحدث في تونس هذا الأسبوع، والتي أثبتت أن عددا من الإعلاميين التونسيين يعرفون حقائق ومعلومات هامة وصادمة عن الإرهاب ولكنهم لا يكشفونها إما خوفا أو تواطؤا.
الطرق والتقنيات والأساليب التي يستعملها الفكر المتشدد في الشحن والتجنيد هي طرق محدثة وتتبع استراتيجيات علمية ووسائل تكنولوجية متطورة للتأثير على الأفراد والتمكن من عقولهم واستيعابهم في منظومته
وبدوره يشارك المجتمع في هذا الفشل، باعتبار أن للإرهاب أفرادا يمدونه بالتمويل المادي والبشري، ويتسترون على الإرهابيين في بعض تحركاتهم، وآخرون قد يقفون أمام الإرهاب موقف المتفرج. وهنا نذكر تلك الصور التي التقطت للإرهابي الذي قام بعملية سوسة وهو يحمل الكلاشنيكوف على شاطئ البحر، ومن خلفه عدد من المواطنين الذين يتفرجون دون أي ردة فعل. وبالتالي، فإن المسؤولية، وفق الطيب الطويلي، جماعية، ولا يرى سبيلا إلى القضاء على هذه الظاهرة إلا بتضافر الجهود والتعامل الصارم والحازم مع الإرهابيين.
ويعتبر الطويلي أن التساهل أو التخاذل مع المنتمين إلى الجماعات الجهادية تواطؤا معهم، لذلك لا يؤيّد فكرة عودة بعض الشباب التونسي من سوريا وإعادة إدماجهم في المجتمع من جديد، بل يعتبر هذا الأمر بمثابة إدخال الثعبان في المخدع؛ فالثلاثة آلاف تونسي ممن كانوا في سوريا، ذهبوا طواعية لا للمشاركة في مسلسل تلفزي سوري أو للاتجار ببعض الأقمشة الشامية، هم كانوا هناك من أجل التقتيل والذبح، وهم مؤهلون نفسيا للقيام بذلك، وينتظرون الفرصة أو الأمر من أجل القيام بهدفهم الأسمى والذي صاروا يعيشون من أجله ألا وهو “تقتيل كل من لا يتفق معهم”.
ويضيف الباحث التونسي، في هذا السياق، أن هؤلاء المجاهدين تعرّضوا لمختلف مراحل الاستقطاب التي يعتمدها منظرو التنظيمات الجهادية، وعــُبّئت أدمغتهم بأفكار من الصعب أن تمحى. لذلك من يريد أن يعيد هؤلاء إلى تونس عليه أن يختار أحد أمرين، إمــّا أن يدخلهم ثم ينتظر عملياتهم التفجيرية والإرهابية القادمة، أو تكاثر أتــباع ملــّتهم الضالة.
لا يرى الباحث الطيب الطويلي وجودا لعلاقة سببية بين الفقر والإرهاب؛ فكم من مجنــّد في حلبات الصراع السوري، تبيّن أنه ميسور الحال في بلاده، وقد ترك ماله وأهله وذهب ينشــَد الحوريات الموعودة، وكم من رب أسرة يعيش حياة طبيعية أخذ أهله إلى سوريا طالبا الجهاد. فالأمر يتعلق بأيديولوجيا متينة ومــُعدّة بإتقان من أجل تنفيذ بعض السياسات المفروضة. وللجماعات الجهادية في هذا أساليب وطرائق منتقاة بعناية أهمها الانغلاق، وذلك عبر اتخاذ بوتقة ضيقة، يقع فيها دمج الأفراد واستيعابهم ضمن المجموعة، وتعبئتهم بالأفكار والمبادئ الثيولوجية والعقدية، حيث يصبح الخروج عن الجماعة مرادفا للقتل والتصفية؛ ومن ثمّ الانفصال عن المجتمع وثقافته ومفاهيمه.
وتطرّق الباحث في سياق حديثه عن وسائل الاستقطاب عند التنظيمات الجهادية عن مركزية اعتماد المخدر لدى هذه الجماعات مثل القنب الهندي أو الكبتاغون؛ كما أنهم يصلون إلى حد اعتماد السحر والشعوذة، ويفرطون في الحديث عن الرغبة الإلهية، ومحاولة تحقيق الإرادة الربانية أو الوعد الإلهي، من أجل تحويل الإرهابي إلى كائن خارق يتحرك بإرادة إلهية.
|
ويشدّد الباحث عند هذه النقطة على ضرورة الاهتمام بالشباب، فهو الهدف الرئيسي لهذه الجماعات. وكان قد تحدّث عن تهميش الشباب في روايته “نقمة المهمشين”، وفيها تطرّق إلى نفسية الشاب المهمش وعن قابليتها السريعة للانفجار. وذكر الحالات الهستيرية التي يعيشها وطريقة نظرته للحياة وللآخر؛ فالشاب الذي يتم تهميشه من طرف السلطة أو من طرف المجتمع، يتحول عبر الزمن إلى قنبلة موقوتة قادرة على الانفجار في أي لحظة، وذلك يرجع إلى أن هذا الشاب هو خزّان من الأمل والطاقة والأفكار والطموح، يتم كبتها جميعها داخل صدر الشاب، فتتحول إلى كتلة من العقد النفسية التي تنعكس على تصرفاته وعلاقته بالمحيط وطريقة تفكيره.
والحل في تقديره هو في منح فرص التشغيل للشباب وتشجيعهم والوقوف إلى صفهم والإحاطة بهم وإيجاد مؤسسات قادرة على تطوير مواهبهم وتفعيل إمكاناتهم وإخراج طاقاتهم المكبوتة. وإلا فالنتيجة معروفة وهي أن تكون تونس المصدرة الأولى للإرهاب، وأكثر البلدان التي تصدر المهاجرين غير الشرعيين. وكل هؤلاء هم شباب مكبوت وبلا هدف أو طموح.
بالتزامن مع تصاعد ظاهرة الإرهاب على مستوى المنطقة العربية والعالم ككل، تصاعدت الدعوات إلى التجديد الديني والفكري كجزء من الحرب الأمنية ضدّ الإرهاب؛ وهو ما يؤيّده الطيب الطويلي، مطالبا، فيما يتعلّق بالتجربة التونسية، لمراجعة المنظومة الدينية التعليمية التونسية بشكل معمق وترعاها مؤسسات الدولة المختصة في هذا الشأن، وذلك لأن فكر الإرهاب تقف خلفه مؤسسات كاملة، ولا بد في مواجهته من فكر على نفس المقدار من القوة تسنده وتخطط له مؤسسات الدولة.
ويشير إلى أن الطرق والتقنيات والأساليب التي يستعملها الفكر المتشدد في الشحن والتجنيد هي طرق محدثة وتتبع استراتيجيات علمية ووسائل تكنولوجية متطورة للتأثير على الأفراد والتمكن من عقولهم واستيعابهم في منظومته. بينما لا يزال تعامل المؤسسة التعليمية التونسية مع الظاهرة الدينية تعاملا بدائيا، حيث لم تكلف الدولة نفسها حتى عناء إعادة تأطير وتكوين المعلمين وأساتذة التفكير الإسلامي بما يتماشى مع السياق الأيديولوجي والسياسي الحالي.
والرأي أن تتم دراسة معمقة وجدية لتطوير المنظومة التعليمية التونسية، تكون قادرة على إنتاج علماء أكفاء قادرين على مواجهة المدّ المتشدّد على المستوى النظري، أما على المستوى التطبيقي فعلى العالم الديني المنشود، أن يكون قادرا على السيطرة الذهنية على تلاميذه، تماما كما يفعل الداعية المتشدّد، حيث يجب تكوينه ليكون قادرا على بث الاطمئنان النفسي في متبعيه، وتمكينه من آليات خطاب الإقناع والإشباع، والذي يمكّنه في النهاية من إيصال تلميذه إلى «مرحلة التمكين» المنشودة، وحيث لا يمكن لأحد بعد ذلك أن يغسل دماغه.
وختم الطيب الطويلي حواره مع “العرب”، بالحديث عن الوضع المتفاقم في ليبيا وتأثيره على تونس وعلى كامل منطقة المغرب العربي، التي يقول إنها في ظرف تاريخي يحتّم عليها أن تستفيد من هذا الوضع الملتهب لكي تخرج أكثر قوة وصلابة، وتعيد بذلك تجارب الدول الغربية التي استفادت من تجاربها الدامية مع التشدد الديني لكي تترك تعصبها جانبا وتتجه إلى المعرفة والثقافة والحياة؛ فهذه التيارات ستمضي، ولا أسس متينة لها داخل المجتمعات العربية، وهي صنيعة لقوى عالمية كبرى تحركها وتمولها.