الطموح المرضي.. سباق مرهق لمسافات طويلة دون خط نهاية

الطموح المرضي قد يشبه كثيرا ألسنة النار التي لا تكتفي وتطلب دائما المزيد لتأكله.
الأربعاء 2018/10/03
الطموح الزائد عبء ثقيل

يمثل الطموح نحو مستقبل أفضل أمنية مشروعة لكنه إذا تجاوز الحد المقبول من المنطق فقد يتحول إلى مشكلة كبيرة، إذ يشعر بعض الناس بأنهم يشاركون في سباق للمسافات الطويلة دون خط نهاية! وقد يكون من ضمن هؤلاء أصحاب الملايين، بحسب تعريف مستشارين ماليين، حيث يقضون معظمهم حياتهم وهم يجرون خلف الصفقات التي تدر عليهم أرباحا كبيرة، من دون أن يأخذوا الفرصة لالتقاط أنفاسهم.

طموح هؤلاء المرضي قد يشبه كثيرا ألسنة النار التي لا تكتفي وتطلب دائما المزيد لتأكله، وهم نادرا ما ينعمون بالقناعة والرضا فلم نسمع في حياتنا مثلا عن واحد منهم يكتفي بالقول “لدي ما يكفي من المال الآن”، ثم يسترخي ويستمتع باللحظة التالية. الأمر بالنسبة إليهم أشبه بتسلق جبل والوصول إلى القمة ثم محاولة التسلق مرارا وتكرارا لبلوغ قمة ثانية، من دون التمتع بمشهد الإطلالة التي يوفرها الوقوف على القمة.

 

نعيش حاضرنا ونحن ننوء تحت الضغوط النفسية بسبب قلقنا من المستقبل؛ أي يوم الغد الذي لا نعرف ملامحه ومتى سيأتي وكيف يباغتنا وكيف ستكون أحوالنا فيه. يشاركنا في هذه المشاعر الملايين من البشر، من دون مبالغة، هذا لأن القلق سمة تتعلق بالطبيعة البشرية وهي عمود البناء النفسي، الذي تتفرع عنه أو بسبب تأثيره السلبي العديد من الوعكات النفسية، بعضها بسيط وطارئ وبعضها الآخر شديد وعنيد ومراوغ.

وتؤكد المدونة والطبيبة النفسية الأميركية والأستاذة في قسم الإرشاد في جامعة باري ألين كوهين، أن العديد من الناس يصرّون على تبديد سنوات حياتهم وأوقاتهم الثمينة في سبيل الوصول إلى القمة، وعندما يحققون هذا يهدرون اللحظة ويضيّعون فرصة الاستمتاع بها، لأنهم يريدون مواصلة الجهد لبلوغ قمم أخرى والتنقل من نجاح إلى نجاح ومن كسب إلى قنص للوصول إلى المستوى الثاني لتوفير الوقت الذي سيهدرونه في الواقع، دون النظر إلى البقعة المنسية في خضم سباقهم المسعور هذا، البقعة التي تتبدى فيها لحظاتهم الحقيقية وحياتهم التي لم يعيشوها كما ينبغي.

وعندما يصل الشخص الطموح إلى هدف ما ويبلغ مطمحه، فإنه لا يميل إلى الاستمتاع به بقدر ما كان يستمتع بتوقع حدوثه وبلوغ مراده، أي أن أهمية تحقيق الأهداف تكمن في محاولة الاستمتاع بكل دقيقة تمر من الوقت الذي يعمل فيه من أجل تحقيقها، هذه العملية هي التي تحقق السعادة أكثر من الحصول على المبتغى في نهاية الأمر. وربما يتضح هذا المعنى كثيرا في طريقة التعامل مع الهدايا أو المناسبات التي نتوقع فيها الحصول على مكافآت مجزية، حيث يكون الوقت الذي نقضيه في انتظار تحقيق ذلك هو لحظات السعادة التي لا ينبغي أن نضيّعها.

وفي الكثير من المحطات المهمة في الطريق الذي نسلكه للبحث عن النجاح، يجب أن نتوقف ونلتقط أنفاسنا ومعها اللحظات الجيّدة منها لنعيشها ونستمتع بمذاق السعادة فقط لأننا مازلنا أحياء ومازال هناك يوم جديد وساعات إضافية لنعيشها، فمن المرجح أن تكون هذه المحطات هي السعادة التي نبحث عنها وليس في الوصول إلى آخر الطريق.

وترى كوهين أننا بصرف النظر عن مدى جدارتنا نحاول أن نتسابق مع الزمن ومع الآخرين الذين نظن بأنهم منافسون لنا أو أفضل منا، للوصول إلى أقصى ما تمليه علينا طموحاتنا، بمعنى محاولة شراء السعادة لغرض الشعور بالتفوق بأي ثمن.

ويكشف الواقع أن هناك قيمة حقيقية لأمور قد نغفل عنها؛ وهي أوقات وإنجازات مهمة وذات قيمة عالية في حياتنا حتى وإن لم تبد كذلك في نظر الآخرين، إضافة إلى ذلك، فقد اعتاد بعضنا النظر إلى الجانب السيء من الحياة والشكوى الدائمة من ضياع الفرص وهذا دافع آخر للبحث عن المزيد لتحقيق غايات ربما لن تضيف شيئا لحياتنا، طالما أننا نتجاهل ما حصلنا عليه فعلا وما تحقق لنا من نجاحات وتلك اللحظات الفريدة والممتعة التي تغاضينا عنها كما لو أنها لا تعني شيئا أو غير ذات قيمة.

الشخص الطموح عندما يصل إلى هدفه لا يستمتع به بقدر ما كان يستمتع بتوقع حدوثه، وهذه العملية تحقق السعادة

وتقول ألين كوهين “أنت فريد وحياتك لها معنى، بغض النظر عمن تكون أو ماذا تملك وماذا حققت، لديك هذه الحياة فقط لتعيشها، فلا شيء يستحق أن تهدرها من أجله، نحن جميعا نستحق أن نختبر هذه الحياة بالطريقة التي نحن عليها في هذه اللحظة”.

ويرى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه “خوارق اللاشعور”، أن الفرص الثمينة كثيرا ما تمرّ علينا مرور السحاب، وهي تكون هيّنة جدا عند مرورها ثم تصعب كلما ابتعدت عنا والواجب علينا أن نغتنمها حال مرورها من غير أن نلجأ إلى تفكير أو تردد أو استعداد، ويفسر ذلك بأن حضارتنا تجعلنا نتخيل الفشل، وتعوّدنا على أن نهمل النجاح الذي يأتينا عفوا من غير مشقة.

من يعتقدون أن النجاح على قدر المشقة قد لا يغتنمون الفرص، ولعلهم لا يتصورون أنها فرص ثمينة حين تمر بهم وذلك لسهولة منالها. فهم لا يقدّرون قيمتها إلا بعد فواتها وعند ذلك يضربون يدا بيد متأسفين. وكثيرا ما يكون أنفع الأشياء هو ذلك الذي يكون أهونها وأيسرها في وقت من الأوقات. إن يسره وسهولة مناله يجعلان الإنسان لا يصدق أنه ثمين ونافع، لا سيما إذا كان معتادا على ألا يحصل على الشيء الثمين إلا بعد مشقة، وعلى هذا المنوال تضيع الفرص على الناس.

21