الطقوس وآداب السلوك من أصول الثقافة البشرية

دراسات في الطقوس من ظاهرة القرابين إلى نصوص الشرائع.
الأربعاء 2021/06/30
الطقوس تلغي العدوان والعنف

إن الطقوس أشكال لغوية وغير لغوية منظمَة تنظيماً يضمن نجاعتها فلا تكون تلقائية، بل تخضع لقواعد وتتميز بالتكرار وببعدها الرامز، وتتكون من رُتب وعناصر طقسية من فواعل وأشياء وحركات وهيئات وكلمات وأطر مكانية وزمانية. ولا تخلو ثقافة من الطقوس حتى عدها البعض أصل الثقافة، ورأى البعض الآخر أن الأشكال الطقسية التواصلية التفاعلية إحدى مكونات المجتمعات البشرية.

اهتم علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا وعلوم التواصل بالطقوس، وانتهت مختلف الدراسات، على تنوع مناهجها، إلى أن الطقس ظاهرة اجتماعية ونسق ثقافي تواصلي.

وهذه الدراسات النظرية التي ضمها كتاب “دراسات في الطقوس” بإشراف الباحثة سهام الدبابي الميساوي، وقدمها الباحثون يسر المولهي وهاجر التركي وزينب التوجاني وظافر البلطي وحفصية سعيدي وأيمن بن حمودة، تفتح أفق البحث في الطقوس العربية والإسلامية، فتُعين على فهم ما يوجد في الواقع من ممارسات، وعلى تناول نصوص عربية تصف الطقوس، وهي كثيرة؛ منها نصوص في طقوس الطهارة والصلاة والصوم والطقوس القربانية وطقوس العبور والطقوس الزراعية والسحرية، والطقوس الاحتفالية “المواسم والأعياد”.

القربان والآداب

أبرز البحوث الغربية المنظرة للطقوس

في تقديمها للكتاب، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، استعرضت الباحثة الميساوي أبرز البحوث الغربية المنظرة للطقوس، ومنها كتاب روبرتسن سميث عن ديانة الساميين، والذي انتهى فيه إلى أن القرابين هي محور عبادتهم، وأن أكل القربان والاشتراك في المائدة القربانية أهم من الفعل القرباني نفسه، وأن وحدة الشعور الناتجة عن تناول القربان سابقة لمفهوم القربان.

كما تناولت تنظير إميل دوركايم للظاهرة الطقسية، حيث اعتبرته أول المنظرين للظاهرة الطقسية في كتابه “الأشكال الأولية للحياة الدينية”، حيث إن الدين عنده مجموعة من المعتقدات والطقوس. وتطرقت إلى اهتمام جيمس فريزر في كتابه “الغصن الذهبي” بالمعتقدات والأساطير والمحرمات وتعرض للطقوس القربانية والزراعية وطقوس المسارة والطقوس السحرية والملكية.

ولفتت الميساوي إلى أنه من المقاربات المفيدة مقاربة آرثر هوكار (1954) التي أعاد إليها لوسيان سكوبلا الاعتبار في مقدمته لكتاب “في البدء كان الطقس”. وأفاد هوكار بأن الطقس هو أصل الثقافة، وأن كل الطقوس تتحد في حفاظها على الحياة والدفع بالأفراد والجماعات نحو الاستقرار والازدهار. واكتشف أن الملوك الأوائل ضحايا قربانية رمزية، وأن القربان البشري، طقساً، هو أصل كل القرابين فيكون جدْوَلَا الموت والبعث أهم ما يميز الظاهرة الطقسية، ويرسخ وظيفة الطقس التعبيرية والرمزية.

وقد وجد إروان دينتال في هذه المقاربة بوادر نظرية ريني جيرار الواردة في كتاب “العنف والمقدس” (1972). فالعنف المبني على الشوق المحاكاتي عند جيرار هو أس الثقافة، ووظيفة الطقس القرباني الضغط على العنف والصراع المحاكاتي بتحوليه إلى كبش فداء (1982).

وقالت الميساوي “لفتت انتباهنا الآثار والفصول التي تحمل عنوان ‘آداب السلوك’، أو ‘الجامع في الآداب’، أو ‘الآداب الشرعية’، أو آداب كذا، وهي نصوص فقهية في آداب التحية والأكل والشرب والملبس والمنام ودخول الحمام وقضاء الحاجة والنكاح ومعاشرة النساء وتربية الأولاد والخدام. ومنها ما هو في آداب المساجد والسوق وحمل القرآن والفتوى والقضاء والتعليم والدعوة والضيافة. ويظفر قارئ هذه النصوص بخطاب واصف ذي طابع معياري يقدم الطريقة التي يتمثل بها العقل الفقهي قواعد السلوك اليومي الضاغطة على الغرائز الفردية والموجهة للأنشطة العادية ومختلف أشكال التفاعل في أطر اجتماعية متنوعة”.

وأضافت “ولما كانت هذه القواعد منتظمة، مكررة، فإنها من وجهة نظر علم اجتماع التفاعل وعلم اجتماع الحياة اليومية، طقوس خاصة، وإنها إلى جانب طابعها التكراري دالة رامزة. وينطبق المفهوم نفسه على آداب الفقير والمريد والصحبة وحسن المعاشرة. التي تشير إليها نصوص التصوف المفيدة بطقسنة سلوك فئة من فئات المجتمع”.

وتابعت “في الأدب نصوص في آداب الملوك والأمراء والوزراء والقضاة والظرفاء، وآداب المنادمة والتهاني والتعازي والتهادي والصيد والغناء والحرب. إن حللناها ظفرنا بطقوس ملكية وطقوس حربية وطقوس لعبية وطقوس لياقة. إن عبارة آداب ذات بعد أخلاقي؛ لأن الأدب ‘يؤدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن القبائح’ (ابن منظور، مادة أدب). وتظهر هذه الأخلاق في السلوك الذي يُطلب تكراره. ولفظ آداب ذو بعد تأديبي تهذيبي؛ إذ أدب علم وروض وهذب، والأدب الظرف وحسن التناول. وهكذا تدل كلمة آداب على حسن السلوك والتأدب والتهذيب والمجاملة واللياقة، فيرتبط المصطلح بطقوس التفاعل الإيجابية التي تيسر اللقاء، وبالطقوس السلبية التي تصلحه وترممه. إن آداب السلوك طقوس تلغي الوقاحة والفظاظة والعدوان والعنف”.

من الطقوس الإسلامية

Thumbnail

في دراستها تتوقف الباحثة زينب التوجاني مع طقس زيارة القبور عند المحدثين، حيث رأت أن زيارة القبور ممارسة لا تزال قائمة بين الناس، على الرغم مما فعلته الوهابية من هدم للأضرحة والمشاهد والقبور والدعوة إلى التخلي عن العادات الموروثة والمعتقدات المرتبطة بها. وقد اعتمدوا في ذلك على موروث ديني انتقوا منه الأحاديث والأحكام التي برروا بها كل ما فعلوه من هدم وحرق وتكفير .

قالت إن “زيارة القبور موضوع من موضوعات السنة تُذكر عادة في الفصول المتعلقة بالجنائز، وقد اهتم العلماء المسلمون بهذه الآداب، فخصصوا لها أبواباً وفصولاً توضح شعائرها الحميدة والمذمومة. ويُعد نص الحسن البصري أقدم النصوص في آداب زيارة القبور، والرد على المحدثات وأهل الأهواء والبدع. وقد اعترض ابن حنبل حتى على قراءة القرآن عند زيارة القبر، ثم تراجع بعد ذلك، ولابن تيمية باب في كتابه ‘اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم’ عنوانه ‘في بدع القبور والمزارات والمشاهد والآثار’. وله في مجموع فتاويه فصول تتعلق بما سماه بدعة زيارة القبور، وله كذلك كتاب عنوانه ‘الجواب الباهر في زوار المقابر’ خصصه للإجابة عن سؤال من السلطان إن كانت زيارة المقابر شرعية أم لا”؟

الطقس هو أصل الثقافة وكل الطقوس تتحد في حفاظها على الحياة والدفع بالأفراد والجماعات نحو الاستقرار والازدهار

ولفتت إلى أن الأحياء في ثقافات عديدة درسها الباحثون مترددون بين الحزن على هذا الفقيد والخوف من روحه التي غادرت جسده، وصارت مرعبة مقدسة. وهذا التردد يصاحب هؤلاء حتى بعد الدفن وبناء القبر بين إباحة زيارة هذا الميت وتحريم ذلك. فقد تردد النبي بين الدعوة إلى الاهتمام بالقبور والخوف من عبادتها، ومثلما تردد النبي تردد العلماء والفقهاء بين إباحة الزيارة وتحريمها، لكن نص ابن القيم، وهو جامع لجملة ما سبقه من نصوص وآراء للسلف العلماء، ترك لنا ما يشبه القرار النهائي بعد مد وجزر، ويتمثل ذلك القرار النهائي في ضبط هذا الطقس المرتبط بالموت ضبطاً واضحاً جامعاً بين جملة من المحرمات التي يجدر اجتنابها وشعائر بسيطة لها وظائف معلومة. وتساءلت الباحثة حفصية سعيدي في درستها المعنونة بـ”طقوس التحية في الخطاب الديني”: ما القوانين التي تحكم التحية في الخطاب الديني؟ كيف تبوب؟ هل تُعد فعلاً علامات دالة على الطقسنة؟ هل بإمكاننا الحديث عن طقسنة الطقس في ما يخص التحية الإسلامية؟ ما هي مستويات طقسنة هذه التحية الإسلامية؟ أَتُعد تلك الطقسنة تعبيراً عن مجموعة من الأحكام والضوابط ذات المرجعية الفقهية الدينية أم أنها تتجاوز ذلك لتكتسب بعداً رمزياً أشمل يستمد مشروعيته من المنظومة الاجتماعية”؟

وقالت “تجنح الآداب إلى الحكم على أشكال السلوك الكثيرة المتفاوتة، فتحبذ موقفا من المواقف وتستحسنه، وتذم موقفا آخر وتستقبحه، تأمر وتنهى، تبيح وتمنع، فتحدد بوجه الإجمال السلوك تحديدا منهجيا واعياً تنتظم من خلاله الحياة الإنسانية تبعاً لمبادئ وقوانين موضوعة يمكن أن تصبح في ما بعد فرضا. ولا يخرج الحديث عن آداب التحية إطلاقاً عن هذا الحد الذي تضحي فيه التحية كيانا خاضعاً للتقنين والوضع والتشذيب والتهذيب طبقاً لذائقة مخصوصة وأهداف واضحة. فتكون بذلك، بآدابها ذات أبعاد متعددة: بعد نفسي يعني علاقة الفرد بنفسه وبربه، وآخر اجتماعي وهو معاملاته وتفاعلاته مع الناس وسلوكه في المجتمع، وبعد ميتافيزيقي وهو عقيدته وقيمه ومُثُله. يمكننا القول إن آداب التحية تتعلق بالسلوك والتصرف، ولكنها ليست السلوك ولا التصرف وإنما هي الهيئة أو الملكة التي في النفس والتي يصدر عنها فعل التحية فهي منبع ذاك السلوك”.

كلمة آداب تدل على حسن السلوك والتأدب والتهذيب واللياقة فيرتبط المصطلح بطقوس التفاعل الإيجابية التي تيسر اللقاء

ولاحظت حفصية أن تعلم تلك الآداب يرتبط بعملية التكرار أو العادة “التي تصبح في ما بعد طقساً”. إذاً، ترتبط آداب التحية بعملية التكرار، وتفيد جميعها الاكتساب والتعلم بعد التكرار، الذي يتحول إلى عادة أو عرف اجتماعي لا يمكن أن يُمارس إلا بالحياة في المجتمع والارتباط بمستلزماته “في المقابل نجد عادات أخرى تكون فردية، فتنم عن سلوك فردي وظاهرة شخصية تمارس في حالات العزلة عن المجتمع مثل عادات الناسك”.

وتابعت أن الناظر في التحية عامة، والتحية في الخطاب الديني خاصة، يرى كونها مظهراً من مظاهر السلوك الجمعي المتكرر، وهي أسلوب في الحياة والتفاعل داخل المجموعة متكرر ومكتسب ومتعلم وممارس ومتوارث اجتماعياً وخاضع لقواعد ملموسة جعلته دعامة ثقافية مهمة. وتخضع التحية لمجموعة من النواميس التي تختلف من حيث درجة الإلزام، فمنها ما يكون حضوره إجبارياً يخل غيابه بالمنظومة الطقسية الاجتماعية، ومنها ما يشهد بعض الليونة في مستوى الحضور والغياب.

Thumbnail
14