الطبيعة هي المعلم الأول

لم يكتشف البشر مفهوم الجمال إلاّ لأن الطبيعة فرضت مفرداته عليهم. مفردات لا تُحصى لا لأنها كثيرة بل لأنها متعددة الوجوه.
الاثنين 2020/08/17
الطبيعة ماكنة لإنتاج الجمال

يقول ليوناردو دافنشي “إن الطبيعة لطفت بنا لأنها جعلتنا نعثر على المعرفة حيثما أدرنا وجوهنا”، الصحيح إننا نتعثر بالجمال.

لم يكتشف البشر مفهوم الجمال إلاّ لأن الطبيعة فرضت مفرداته عليهم. مفردات لا تُحصى لا لأنها كثيرة بل لأنها متعددة الوجوه. فالمفردة الطبيعية لا تكرّر حالها. تبدو جديدة في كل مرة ننظر إليها. هي سواها في كل مرة بالرغم من أن اللغة تتخطّى ذلك التعدّد فتبقيها سجينة اسم واحد.

مَن يرسم الغابة سيكون مسحورا بكنوزها التي قد يقضي العمر من غير أن يكون متأكّدا من أنه قد وصل إلى الكنز الأخير. ذلك الكنز الذي يظل بعيد المنال. فالغابة في تلك الحالة هي غابات.

لقد مشيت لسنوات في غابات المدن الصغيرة التي أقمت فيها ولا أتذكّر أني مشيت في الدرب نفسه. تعيد الغابة تأثيث دروبها فتبدو أخرى كما لو أنني أراها لأول مرة.

لو كنت رساما لرسمت الدرب نفسه عشرات المرات فأنتج عشرات اللوحات من غير أن تشبه لوحة أختها. الطبيعة ماكنة لإنتاج الجمال. وهي ماكنة لا تتوقّف عن العمل ليل نهار. لا أقول ذلك من باب التكهّن. تجربة الرسامين الانطباعيين تقول شيئا من ذلك القبيل وإن كانت الانطباعية قد ركّزت على التغيرات التي تحدثها المؤثرات الخارجية من غير أن تنقب بحثا عن تغير الأشياء من الداخل.

في ذلك يمكن أن نستثني تجربة كلود مونيه العظيمة “الزهور المائية”. تلك تجربة لا يكفي أن نرى نتائجها وهي موزعة بين المتاحف العالمية بل علينا أن نعيشها. رسم مونيه حوالي أربعين لوحة كبيرة تصوّر زهوره المائية. كل واحدة منها هي بمثابة درس في فهم تحوّلات الطبيعة.

لقد أتيحت لي فرصة الاقتراب من عدد من تلك اللوحات فاكتشفت أن كل سنتمتر من تلك اللوحة قد تطلب جهدا عظيما بذله الرسام من أجل أن يصل إلى خلاصاته الجمالية التي هي تجسيد لما يطرأ على الطبيعة من تحوّلات.

16