الصين أوّلا وبعيدا: بكين المفقودة في أزمات المنطقة

الرسالة التي فهمتها السعودية وجعلتها تتريث وربما تتردد في الانضمام إلى بريكس هي أنه عندما يجدّ الجد وحده الغرب يتحرك للردع؛ ففي المنطقة لا أثر للبوارج الصينية أو حتى الروسية.
الاثنين 2024/02/05
ألم نقل لكم؟

نفى مصدر سعودي للمرة الثانية خلال أقل من شهر أن تكون بلاده قد حسمت قرار انضمامها إلى مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). من الصعب معرفة ما إذا كانت السعودية قد خططت لهذه المماطلة في الانضمام إلى المجموعة، أم أن الأحداث المتسارعة في المنطقة دفعتها إلى التريث.

من الوارد أن يكون الاهتمام السعودي ببريكس وسيلة لتنبيه الغرب، والولايات المتحدة على وجه التحديد، إلى خطورة الاستمرار في علاقة سلبية مع الرياض. تحسنت العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة بشكل كبير، ولا أثر اليوم للاستهداف المعنوي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بسبب قضية قتل الصحافي جمال خاشقجي أو الحرب في اليمن. المقاتلات الأميركية والبريطانية تقوم اليوم بما كانت تقوم به المقاتلات السعودية والإماراتية في استهداف القواعد والصواريخ والمسيّرات الحوثية. لولا الكياسة الدبلوماسية في الرياض وأبوظبي لَصدرت عنهما برقيات سرية إلى واشنطن يقول مضمونها: ألم نقل لكم؟

لكن التطورات المتسارعة في الإقليم بعد اشتعال حرب غزة تترك مجالا للفرضية الثانية، أي التريث. الحرب في غزة غيرت الكثير ومنحت إيران وحلفاءها فرصة استثنائية لتغيير الكثير. لا بد من الانتباه إلى أن هناك حروبا كثيرة تدور الآن تحت غطاء حرب غزة. الحرب المجرمة على الفلسطينيين تُركت للإسرائيليين بإذن غربي واضح. لكنّ حربين حاسمتين إستراتيجيّا تدوران في الوقت نفسه بحجة غزة: حرب إخراج ما تبقى من قوات أميركية من العراق، وحرب فرض السيطرة الحوثية (أي الإيرانية) على الممر البحري الأهم عالميّا، باب المندب/البحر الأحمر.

◙ الوضع المربك للأزمة في غزة أعاد إيران إلى المشهد بشكل مختلف، لا علاقة له بالشكل الذي شاهدناه قبل عام في بكين عندما اجتمع السعوديون مع الإيرانيين برعاية صينية لنزع فتيل النزاع بينهما

قبل أيام معدودة تحركت فرقاطة دنماركية في طريقها إلى خليج عدن للقيام بدور مُكمّل لعمل البوارج الأميركية والبريطانية هناك. تتصدى هذه البوارج بشكل يومي للصواريخ والمسيّرات التي يطلقها الحوثيون على السفن التجارية وناقلات النفط والغاز التي تَعْبر البحر الأحمر. بدأت حجة الاستهداف بالقول إن الحوثيين يضربون سفنا تتوجه نحو إسرائيل، ثم توسعت قائمة الأهداف. استُهدِفت سفن متوجهة إلى السعودية أو هي في طريقها نحو قناة السويس. بعد فترة قصيرة ضربت الولايات المتحدة وبريطانيا القواعد العسكرية الحوثية المرتبطة بالهجمات، سواء التي تطلَق منها الصواريخ والمسيرات أو التي تقوم بالرصد الراداري لحركة الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن. تحرك الفرقاطة الدنماركية بناء على التنسيق مع كبار الحلفاء الغربيين -وتحديدا الولايات المتحدة- هو تذكير بأن الغرب، وليس أيّ قوة أخرى، من يأخذ على عاتقه مهمة فرْض الأمن في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

الرسالة التي فهمتها السعودية وجعلتها تتريث، وربما تتردد، في الانضمام إلى بريكس هي أنه عندما يجد الجد وحده الغرب يتحرك للردع؛ ففي المنطقة لا أثر للبوارج الصينية أو حتى الروسية، وإذا كانت موجودة فهي بعيدة ولا تفعل أي شيء لمواجهة مخاطر تمس حتى سفنها التجارية أو السفن التي تحمل بضائعها. هل الاختفاء الصيني عن المشهد موقف مبدئي أم سياسي أم انتهازي؟ لا يبدو هذا الأمر ضمْن شواغل السعودية.

الولايات المتحدة تتحمل الوزر الأخلاقي لما يحدث في غزة. الدولة الأسوأ سمعة بعد إسرائيل الآن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل والعالم الإسلامي وما يسمى بدول الجنوب، هي الولايات المتحدة. ثمة اقتناع بفكرة أن إسرائيل لم تذهب إلى ما ذهبت إليه من قتل وتدمير في غزة، لولا الدعم السياسي واللوجستي الأميركي.

لكن الولايات المتحدة متعودة على مثل هذا التلويث للسمعة. اذهب إلى سنة العراق اليوم واسألهم عن تواجد القوات الأميركية في العراق، فستصدمك ردود فعل الكثيرين منهم؛ إذ يطالبون ببقاء هذه القوات لمنع الإيرانيين من فرض السيطرة الكاملة على بلادهم. هؤلاء السنة هم أنفسهم الذين قادوا المقاومة ضد الاحتلال الأميركي لبلادهم قبل 20 عاما. المحتل/المنقذ الأميركي للشيعة عام 2003 أصبح اليوم مفتاح التوازن للاختلال الذي صنعته واشنطن في المنطقة.

بهذه العين تنظر السعودية، ومعها دول الخليج، اليوم إلى الأميركيين. هذه الولايات المتحدة التي سمحت لإسرائيل بوضع القضية الفلسطينية على الرف ودون حل لأكثر من 20 عاما، ومهدت للأجواء المسمومة التي قادت إلى حرب غزة الحالية، وهي البلد الذي دمر العراق ومنح إيران فرصة الوصول إلى ما وصلت إليه من عربدة إستراتيجية في المنطقة، وهي القوة التي لم تتحرك في أكثر من مناسبة للرد على استهداف السعودية والخليج بهجمات الصواريخ والمسيرات، هي نفسها القوة التي تمنع إيران وميليشياتها اليوم من تسلم مفاتيح المنطقة بشكل نهائي.

◙ الحرب في غزة غيرت الكثير ومنحت إيران وحلفاءها فرصة استثنائية لتغيير الكثير. لا بد من الانتباه إلى أن هناك حروبا كثيرة تدور الآن تحت غطاء حرب غزة

ضع الروس جانبًا. لديهم حضورهم المحدود في سوريا، وبارجة تزور الموانئ الجزائرية بين حين وآخر، وحركة مرصودة لعناصر فاغنر خفتت إثر مقتل قائد مجموعة المرتزقة  يفغيني بريغوجين. فروسيا ليست قوة يعتد بها في الشرق الأوسط. الشيء الوحيد الذي تمكن الروس من إنجازه هو تنسيق المواقف بخصوص الإنتاج النفطي لأوبك+ قبل نشوب حرب أوكرانيا وبعده. هذا جعل الريع السعودي من النفط كبيرا، ولفترة ظنت الرياض أن بوسعها الالتفات إلى إنفاقه على مشاريعها الإستراتيجية والترفيهية، وأن تنسحب من التزاماتها المالية السابقة مع دول المنطقة، خصوصا عقب انحسار حرب اليمن.

لكن الأزمات في منطقتنا مثل السرير المائي، إذا ضغطته نحو الأسفل في مكان، يرتفع في مكان آخر.

الوضع المربك للأزمة في غزة أعاد إيران إلى المشهد بشكل مختلف، لا علاقة له بالشكل الذي شاهدناه قبل عام في بكين عندما اجتمع السعوديون مع الإيرانيين برعاية صينية لنزع فتيل النزاع بينهما. الصين، صانعة السلام بين الرياض وطهران، لم تصنع سلاما في المنطقة. الوضع في السعودية بالنسبة إلى الإيرانيين يمكن أن ينتظر إلى أن يتمّ استكمال المهام في أماكن أخرى. الحرب في اليمن معلقة، لكنّ حربا أخرى ترعاها إيران تشتعل في المضيق والبحر. وإذا تم لإيران ما تريده في العراق، فستُطْبق الميليشيات الموالية لإيران على الحدود الشمالية للسعودية وستناوش من الحدود الغربية للأردن. هل تحركت الصين، الزبون الأكبر للنفط الإيراني وموفّر العملة الصعبة لنظام ولاية الفقيه، لمنع كل هذا بتقديم النصيحة لإيران، نصيحة من شاكلة “تصفير المشاكل” مع السعودية؟ من الواضح أن الصين تتحاشى كل هذا، بل تستثمر في سوء سمعة الولايات المتحدة في المنطقة والعالم بما يتطابق مع الدعاية الإيرانية.

لم يسعف التنديد السعودي بالتدمير والقتل الإسرائيلييْن في غزة الرياض لتجنيبها الانتقادات، وتستمر الدعاية الإيرانية والفلسطينية المضادة في التنديد بما تعتبره موقفا سعوديا سلبيا. وتم تأويل الاحتفال بالإعلان عن دعوة دول إلى مجموعة بريكس في نوفمبر الماضي على أنه نوع من الاحتجاج على الجبروت الأميركي عالميا. ولا أثر لتحرك صيني ذي معنى لحماية الحليف الجديد، السعودية، من التهديدات المختلفة التي تنغص عليه متعة إنفاق المال الكثير أو استثماره. شعارات مثل “السعودية أوّلا”، تجد من يتفوق عليها في بكين: “الصين أوّلا وبعيدا”. ثمة في الرياض من سيقول لواشنطن: ما أحلى العودة إليك.

9