الصمت الداخليّ للفرد في مواجهة ضجيج المدينة

الموسيقي الأميركي كريغ شيبرد يدعو سكان باريس إلى نزهة صامتة على إيقاع الترومبيت في مهرجان الخريف.
الأحد 2019/11/24
الترومبيت بمواجهة الصمت

باريس – يحاول مهرجان الخريف المسرحيّ في باريس كل عام أن يستفيد من فضاء المدينة ومكوناتها المادية والرمزيّة ضمن استعراض مسرحيّ أو عمل أدائيّ، جاعلا منها خشبة مفتوحة للجميع؛ للمارة والمتطفلين والمشاركين، إذ استقبل العام الماضي عرض “بطء” الذي تحرك فيه المشاركون ببطء شديد بشوارع باريس، في محاولة لإدراك حضورهم في المدينة، هذا العام يتكرر الأمر مع الموسيقى وإيقاعها، وفي كلا العامين يبدو المهرجان خجولا في توظيف المدينة وأقل راديكالية من أعمال الأداء التي شهدتها باريس، والتي تسائل عن شكلها والقوانين التي تحكمها.

يستضيف مهرجان الخريف في مدينة أوبيرفيلية قرب باريس الموسيقي الأميركيّ كريغ شيبرد، ضمن عرض “على القدمين”، والذي يشكل جزءا من مجموعة عروض أنجزها شيبرد في مختلف أنحاء العالم للبحث عن الصمت الداخلي ضمن فضاء المدينة، إذ يدعو سكان باريس إلى أربعة وعشرين لقاء، يمشون عبرها في المدينة لعدة ساعات، ويستمعون إلى “أصواتها” دون أن يتكلموا، ودون هواتف نقّالة، وليبحثوا في دواخلهم عن الصمت الذي تلتهمه المدينة بضجيجها وإيقاعها السريع.

الصمت السابق واكتشاف أصوات المدينة، يعاد إنتاجه عبر التسجيل الذي يقوم به شيبرد للمسير، ليجتمع المشاركون في النهاية منصتين إلى “صوت المدينة” وهم ضمنها، في محاولة لإيجاد الإيقاع، ذاك الخفي الذي يضبط الحركة والتنقل والتدفق ضمن المدينة والذي يقابله صمت داخليّ، يحاول العرض تلمسه وإنتاجه بوصفه دفينا في كل واحد منا.

تأتي شعرية هذا العرض بوصفه أسلوبا لنفي إيقاع المدينة، ليتميز المشاركون/ اللاعبون عن أولئك العاديين والمسرعين، عبر وضع قواعد جديدة لحركاتهم، ذات الإيقاع الأبطأ الذي لا يحكمه أي هدف سوى الإنصات، ما يعني وعيا شديدا بالذات وحضورها في المدينة، لا فقط كموضوعة سياسية وثقافيّة بل أيضا كجزء من كتلة بشرية تسمى “السكان”، ليأتي صمت المشاركين كمحاولة للتحرر من هذه الكتلة، وخلق علاقات جديدة بينهم أساسها المسافات بين “الأصوات”، لإيجاد الصمت الذي يلتقطه المايكروفون، ويسمعه المشاركون مرة أخرى في النهاية.

الاتفاق على الصمت

الشارع مساحة للأداء الموسيقي
الشارع مساحة للأداء الموسيقي

قبل البدء بالعرض، يقوم المشاركون مع شيبرد بأداء قسم الصمت، وهو اتفاق لغوي بينهم وبين “قائد اللعبة” على عدم نطق كلمة، والحفاظ على صمت تام، لا لنفي ضجيج المدينة، بل للمس السكون الداخليّ الخفي داخل كل واحد منهم، والذي يصفه شيبرد بأنه نوع من السلام الروحي، الذي يمكن الوصول إليه عبر الموسيقى، لا انعدامها، والتأمل أثناء المشي، لمدة ثلاث ساعات، دون التفكير في أي شيء، من أجل تصفية “العقل” من أفكاره وهواجسه، فلا هدف أو مكان نهائيا ينبغي الوصول إليه، فالطريق وضجيجه ليسا إلا العتبة الأولى نحو الصمت، الذي يدفع المؤدين نحو لحظة صفاء بمواجهة المدينة وعمرانها الإسمنتي.

يسعى الأداء السابق إلى خلق تجربة يختبرها كل مشارك على حدة، صحيح أن المشاركين يمشون كمجموعة، لكن كل واحد منهم يغوص في عوالمه وأفكاره الشخصية المتفردة، لتصبح المدينة مساحة للأداء الفرديّ يختار فيها كل مشارك المكونات والرموز التي تلائمه من فضاء المدينة في ذات الوقت الذي يعيد التفكير في علاقته معها.

هذه العلاقة مع المكان ودور الصمت ضمنه نتعرف عليها في المرة الأولى التي أنجز فيها شيبرد العرض، إذ يخبر المشاركين في بداية الأداء. مشى وحيدا لست ساعات عام 2005 على سفح جبل جورا، لتستمر بعدها محاولاته لنقل تجربة الصمت إلى المدينة، بوصفه سلاحا ضد ضجيجها، ومساحة إبداعية يمكن لكل واحد من المشاركين أن يختبر فيها مخيلته وما هي “المؤثرات” الصوتية التي تتسلل إلى أذنيه دون علمه.

إيقاع جديد للشارع

عرض "على القدمين" .. البحث عن الصمت الداخلي ضمن فضاء المدينة
عرض "على القدمين" .. البحث عن الصمت الداخلي ضمن فضاء المدينة

الأداء العلني الثاني الذي نظمه شيبرد بعنوان ” مدينة الترومبيت” إذ قام مع 40 عازف ترومبيت من باريس، بالاصطفاف لمدة ساعة في شارع الريبوبليك، لنرى العازفين على طول الرصيف مستعدين مع آلاتهم، يفصل بين الواحد والآخر خمسين مترا يعزفون موسيقى يقارب ارتفاعها صوت ضجيج الشارع.

تحاول مدينة الترومبيت أن تجعل المارة والعابرين في المدينة أمام نسيج صوتي جديد، عبر موسيقى تتخلل أصوات الخطوات ومحركات السيارات والكلام العشوائي، ليبدو الأمر بداية مجرد أصوات غير متقنة لكن المنصت الذي يتمهل أثناء مشيه يمكنه أن يدرك صوت الترومبيت الذي يخلق إيقاعا جماليا وشعريا مختلفا عن ذاك الاقتصادي الذي يضبط أصوات المدينة والحركة ضمنها، ويتيح للمتنزهين فرصة جديدة لاختبار المدينة بعيدا عن واجهاتها ومغرياتها الإعلانيّة، عبر التركيز على “السمع” في تحدّ للبصر بوصفه العنصر الأول الذي يعتمد عليه التنزه في المدينة، ما يخلق تجربة مختلفة مع الشارع يحفر فيها صوت الترومبيت عميقا في ذاكرتنا الرمزية عن المكان.

يحاول العرضان السابقان تغيير الطريقة التي ننظر بها إلى المدينة ويسعيان لتحويلها إلى مساحة للعمل لا فقط للانتقال، إذ يحاول شيبرد في بعض العروض أن يؤلف الموسيقى في عقله، مُختبرا تأثير المكان على حساسيته الموسيقيّة، وهذا ما لم يختبره بعض المشاركين، الذين لم يستطيعوا كليا تفريع عقولهم من ضغوطات الحياة اليوميّة وأثر المدينة وأصواتها التي تلفت الانتباه، خصوصا أن واحدا من العروض كان في يوم أحد، النهار الذي يتظاهر فيه محتجو السترات الصفراء، ما يجعل المدينة تتحول إلى خشبة للمواجهة مع السلطة.

 ليأتي أداء شيبرد هنا مجرد متعة جماليّة ساذجة، وتسليما بشكل المدينة وسياساتها، أشبه بترف عاطفي في مدينة تشهد غلاء الأسعار ومواجهات مع الشرطة، وكأن شيبرد يتجاهل أن “الضجيج” هو منتج سياسيّ في المدينة، وحتى لو كنا صامتين فيها فعلاقتنا كموضوعات معها دائما مقننة، إذ لا يسائل عرضا الأداء السابقان الأثرَ السياسي الذي تتركه المدينة علينا، خصوصا وأن المشي على الرصيف هو فعل سياسي ونتاج مجموعة من القوانين والأشكال المادية التي تحدد طول الرصيف وعرضه والسرعة عليه (أقل من 20 كم في الساعة) وذلك لضبط التدفق البشري، وتكديس المارة ضمن مساحة محددة مخصصة للحركة فقط لا للسكون.

15