الشيخ علي جمعة المثير للجدل بفتاواه وآرائه السياسية

الأحد 2015/09/13
مُجدّد ديني دفع ثمن شجاعته غاليا

بين فريق يراه نجم نجوم مشايخ الفضائيات، وفريق آخر يصفه أنه واحد من علماء السلطان، يبقى الشيخ علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف والمفتي السابق أكثر شيوخ مصر إثارة للجدل بفضل، فتاواه التي تجلب عليه الكثير من الهجوم وأحيانا السخرية، مع أن نظرة موضوعية خالية من “التسييس”، يمكن أن تقود إلى قناعة بأن تلك الفتاوى تشكل في مجموعها معالم للتجديد المأمول في الخطاب الديني، وطبعه بروح عصرية.

قد يكون ما جعل الشيخ علي جمعة في مرمى النيران ليس فتاواه التي تخرج غالبا عن المألوف من آراء علماء الإسلام، لكن جرّاء مواقفه السياسية المعلنة والواضحة ضد جماعة الإخوان المسلمين التي ظلت منذ نشأتها قبل أكثر من 80 عاما تستمد شرعيتها السياسية من غطائها الديني كحامية حمى الإسلام في مصر، وهو ما جادلها فيه المفتي السابق في وقت تراجع فيه شيوخ أجلاء عن المعركة إيثارا للسلامة.

لهذا يندر أن تجد موقعا أو صفحة إخوانية على الإنترنت، دون أن يكون فيها جناح خاص للهجوم على الشيخ علي جمعة والسخرية منه ومن فتاواه التي يصمونها بالجهل وخدمة السلطة والاجتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم، دون أن يحاول أحدهم مناقشتها بشكل موضوعي.

المحاسب الفقيه

الشيخ علي جمعة المولود في الثالث من مارس عام 1952 تخرج أولا في كلية التجارة جامعة عين شمس في منتصف سبعينات القرن الماضي، قبل أن يلتحق بجامعة الأزهر، حيث تدرج في دراسة أصول الفقه حتى حصل على درجة الدكتوراه عام 1988.

رغم إسهامه في المكتبة الإسلامية بنحو 18 مؤلفا رصينا بخلاف مئات البحوث التي شارك فيها أو أشرف عليها والكتب التي حققها، إلا أن الهجوم الإخواني عليه يتركز على شهادته الجامعية المدنية ودراسته في كلية التجارة، فتجد أن كثيرا من التعليقات على آرائه تتضمن عبارة مثل “ماذا تنتظرون من خريج كلية التجارة”، دون النظر لمشواره الطويل في دراسة الفقه الإسلامي وكتاباته المتعددة عنه.

يتميز الشيخ علي جمعة بالشجاعة التي تتجاوز في بعض الأحيان الحدود الآمنة، خاصة في ظل مزاجه العصبي الذي يتشابه فيه مع د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الراحل، وهو ما كلّفه الوقوع في شرك الغضب الذي ينصبه له بعض المتصلين به في برامجه التليفزيونية، فيخرج عن حلمه المعتاد ليقول كلاما يتاجر به المتربصون، مثل تلك الواقعة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي ونقلتها العديد من الصحف عن اتصال هاتفي تلقاه المفتي السابق من امرأة متعاطفة مع الإخوان تعمدت فيه استفزازه حتى بلغ الحوار مرحلة السباب المتبادل.

الدكتور-الشيخ جمعة سار على خطى الدكتور-الشيخ طنطاوي في مسألة أخرى هي الإقدام على الظهور في مناسبات اجتماعية يختلط فيها بالفنانين وأهل السياسة، وهو ما جلب عليه حملات تشويه متعمدة، مثل ما حدث مؤخرا عقب حضوره احتفالية “أمّة واحدة”، رغم أنها أقيمت في الأصل لغرض نبيل هو تكريم عدد من الأمهات، إلا أن حضور الفنانات، يسرا وإلهام شاهين ومنى عبدالغنى والإعلامية بوسي شلبي، تسبب في إطلاق موجات من الهجوم المكثف ضد العالم الجليل.

اتهام الشيخ بأنه من المفرطين في الدين يعود إلى آرائه المتقدمة ومواقفه الحاسمة ضد المتطرفين، وهو اتهام غير مبني في مجمله على قراءة دقيقة لشخصيته وفكره

فتاوى إشكالية

في وقت تنشغل فيه المؤسسات الرسمية في مصر بالعمل على تحقيق رغبة الرئيس عبدالفتاح السيسي في تجديد مفردات وآليات الخطاب الديني، يرى البعض أن مجموعة ضخمة من فتاوى الشيخ علي جمعة، خصوصا التي أطلقها عقب تركه منصب الإفتاء الرسمي عام 2013، عبر البرامج التلفزيونية التي يظهر فيها بشكل منتظم تصلح لأن تكون مقدمة متماسكة لخطاب ديني جديد، بما تحتويه من رؤية عصرية لكثير من “التابوهات” التي لم يجرؤ سوى عدد قليل من العلماء على مواجهتها من قبل.

من بين أبرز تلك الفتاوى، واحدة أباح فيها للمسلم الذي يعيش في بلاد غير المسلمين أن يعمل في مطعم يبيع الخنزير والخمور، لكن من دون أن يتناول هو نفسه أيّا منهما، وقد استند في فتواه على رأي الإمام أبي حنيفة حين قال: إن كل العقود الفاسدة في الديار التي تنكر الإسلام حلال كونها ليست محلا لإقامة الإسلام.

هناك فتواه التي كانت بمثابة قنبلة في أوساط الاقتصاديين وقت إطلاقها بما تضمنته من تحليل فوائد البنوك بشكل عام، انطلاقا من أن معاملات البنوك القائمة على الاقتراض في العصر الحالي لم تعد تستند على قاعدة الذهب والفضة، مخالفا إجماع علماء الأمة، وهو موقف لم يجاهر به عالم قبله سوى الشيخ طنطاوي نفسه في ثمانينات القرن الماضي، وهوجم كثيرا بسببه، خاصة بعد أن اقترب من منطقة استثمارية تقدر بمئات المليارات تحتكرها البنوك التي تدّعي التعامل وفقا للشريعة.

فتوى ثالثة بتشجيع السياحة الوافدة إلى مصر، وعدم جواز فرض التقاليد المجتمعية المحافظة على السائحين والسائحات الأجانب، بشرط التزامهم بالسلوكيات المحترمة.

كذلك أفتى العالم الاسلامي بجواز إفطار المسافر في “المصايف والرحلات”، على أن يتوب إلى الله بعدها، مع التأكيد على أن الصيام له أفضل لأن شهر رمضان الكريم لا يعوض.

لكن أكثر فتاواه المجددة جلبا للهجوم عليه هي تلك التي أوصى فيها الرجال المتزوجين بالاتصال (تليفونيا) بزوجاتهم قبل العودة الى المنزل التزاما بما وصفه بـ”الإتيكيت الإسلامي” المنقول عن حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، جاء فيه قوله “أمهلوا حتى ندخل ليلا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة” ويعني عدم مفاجأة الزوج لزوجته حتى تستعد لاستقباله.

لكن ما حدث أن الدكتور علي جمعة حين ذكر الحديث وتحدث عن الموقف أردفه بطرفة مثل التي يلجأ إليها أحيانا الكثير من الخطباء والعلماء فقال “اتصل بيها يا أخويا افرض معها أحد خليه يمشي”.

الغريب أن موقف إبلاغ الزوجة قبل العودة إلى المنزل وقع في التسعينات إلا أن الهجوم العنيف عليه لم ينطلق إلا بعد 30 يونيو 2013 حين انقلب الإخوان على المفتي السابق وغيره من العلماء الذين وقفوا ضدهم وأيدوا عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي.

الشيخ علي جمعة أصر على مواصلة الفتوى بما يراه صحيحا، دون أن يخشى لومة لائم فأصدر تصريحه المثير العام الماضي خلال ندوة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، أكد فيه أن الله عز وجل لم يحرّم الزنا.

وقال الشيخ الجليل في الندوة التي كانت مخصصة لمناقشة كتاب “الإجماع” للدكتور علي عبدالرازق، إن القرآن الكريم لا توجد به آية صريحه تحرّم “الزنا”، معلقا على الآية 32 من سورة الإسراء التي تتحدث عن الزنا في القرآن الكريم بقوله “ربنا قال ولا تقربوا وما قالش حرام”، على حد تعبيره.

هذه الفتاوى وغيرها الكثير يمكن أن تمثل، بحسب تقدير المهتمين بالفقه الاسلامي، مدخلا مناسبا لتجديد الخطاب الديني، بما يتماشى مع طبيعة العصر الذي نعيشه، خاصة أنها تعكس في مضمونها رؤية مستنيرة لقضايا ظلت أسيرة لرؤى “اتّباعية” وليست إبداعية تتعامل مع روح النص بمرونة ومراعاة للسياق التاريخي المتغير.

في المقابل أصدر جمعة مجموعة من الآراء التي قوبلت بسخط التيار المدني مثل حديثه عن التبرك ببول الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتوى إرضاع المرأة لزملائها في العمل، حتى تكون محرّمة عليهم ومن ثمة تسقط حرمة اختلاطها بهم، كذلك تصريحه بأن من حق الرجال النظر للمرأة المتبرجة التي تسقط بتنازلها عن ارتداء الحجاب حقها في غض البصر عنها.

علي جمعة في مرمى النيران ليس بسبب فتاواه التي تخرج غالبا عن المألوف من آراء علماء الإسلام لكن جراء مواقفه السياسية المعلنة ضد جماعة الإخوان المسلمين

قلب شجاع

بعيدا عن الجدال السياسي يظل الشيخ جمعة من أكثر مشايخ الأزهر الشريف، المؤسسة الإسلامية الرسمية في مصر، شهرة وانتشارا إعلاميا، بسبب مواقفه الواضحة والمعلنة في أوقات الأزمات، وهي مواقف قد يرجعها البعض إلى عدائه الظاهر لجماعة الإخوان المسلمين، بينما يعتبرها آخرون انعكاسا لشخصيته القيادية وشجاعته في الحق.

يقارن كثيرون في هذا السياق بين موقفه الواضح في دعم الجيش والشرطة المصريين خلال أزمة فض اعتصام الإخوان في منطقتي النهضة ورابعة في 14 أغسطس 2013، وموقف أحمد الطيب شيخ الأزهر.

بينما صرح جمعة بكلمات لا تحتمل اللبس أن “الدماء التي سالت في رقبة قيادات الإخوان الذين كانوا (بيتنططوا) على منصة رابعة العدوية، وليس في ذمة المكلفين شرعًا ووضعًا وطبعًا في الدفاع عن الناس”، أصدر الطيب بيانا تبرأ فيه من الدماء التي سالت في رابعة، ونفى علمه بموعد الفض، قبل أن يعتكف في بيته الريفي بمحافظة الأقصر (جنوب مصر) مسقط رأسه لفترة من الزمن، في موقف قال محللون سياسيون إنه أفقد الحكومة القائمة وقتها الكثير من الدعم الشعبي لقرار فض الاعتصام.

فضيلة الشجاعة كلّفت المفتي السابق تبني مواقف سياسية صريحة بما يتعارض مع المبدأ الذي يدعو إليه مع أغلب علماء الأزهر بضرورة فصل الدين عن السياسة.

فقد جاهر خلال جولة الإعادة بين المرشحين محمد مرسي وأحمد شفيق في انتخابات الرئاسة عام 2012 بإعلان تأييده للثاني، بدعوى أنه أقرب إلى الله من مرسي، وذلك من فوق منبر المسجد خلال خطبة الجمعة، وقبل ذلك طالب المتظاهرين خلال ثورة 25 يناير 2011 بالعودة إلى منازلهم لأن الاحتجاجات خلقت وضعا لا يجد فيه المواطنون “لقمة العيش”، بينما اتخذ موقفا معاكسا خلال ثورة 30 يونيو عندما أكد سقوط شرعية الرئيس الإخواني محمد مرسي، لأنه إمام محجور عليه.

لكن الانتقادات العنيفة التي كالها الإخوان له، وفي مقدمتهم الشيخ يوسف القرضاوي، المقيم في قطر، الذي وصفه بأنه الجنرال علي جمعة، مردود عليها بآراء أخرى للرجل تثبت أنه لا ينطلق من دوافع ولاء سياسي أو مصلحي، فقد اختلف مع رأي عبدالعزيز آل الشيخ مفتي السعودية في ذروة تحسن العلاقات بين البلدين حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوي، فقال نصا “إن من يرفضون الاحتفال بالمولد ويسمونها الموالد الشركية، فإن فكرهم هو فكر التكفيريين الدواعش”.

كما رفض اعتبار الشباب الذي يلقى حتفه غرقا خلال محاولته الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا شهداء، واعتبرهم على العكس من ذلك “طمّاعين” فرّطوا في أرواحهم مجانا ولم يخرجوا في سبيل الله، وهو رأي شجاع لا يصدر إلا من رجل لا يضع السياسة في حساباته.

الكثير من فتاواه يعكس رؤية مستنيرة لقضايا ظلت أسيرة لرؤى "اتباعية" وليست إبداعية تتعامل مع روح النص بمرونة ومراعاة للسياق التاريخي المتغير

ضد العلمانية

من اللافت أن هناك الكثير من الاتهامات التي توجه للشيخ علي جمعة بأنه من المفرّطين في الدين، بسبب آرائه المستنيرة ومواقفه ضد جماعة الإخوان، وهي اتهامات ليست مبنية في مجملها على قراءة دقيقة في شخصيته، إذ أن رفضه لا يقتصر فقط على الإخوان، إنما لكل تيار أو جماعة إسلامية مستقلة، انطلاقا من إيمانه الراسخ بأن العلماء هم الذين درسوا علوم الدين كافة في الأزهر وتخرجوا منه.

وطالب في أكثر من موقف سابق أن يقتصر تدريس الشريعة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني على علماء الأزهر، نظراً للتخصص الذي ينشأ عليه طالب العلم في جميع مراحل التعليم حتى يحصل على الدكتوراه.

ويتجاهل المنتقدون العديد من المواقف الحاسمة للمفتي السابق في مواجهة العلمانيين، ومنها موقفه ضد من يصفون التراث الإسلامي بـ”العفن” معتبرا ذلك شكلا من أشكال قلة الحياء والأدب والدين أيضاً، وقال موجها كلامه لهؤلاء “يقول التراث العفن، عفن إيه يا معفن”. كما هاجم علي جمعة الدعوات التي ظهرت قبل حوالي شهرين تطالب بخلع الحجاب، قائلا إن من يطلقون هذه الدعوات لا يقرأون دروس التاريخ.

7