الشعوذة.. طريق المستقبل

تلجأ الشعوب في الشدائد إلى الروحانيات بحثا عن ملاذ آمن من صدمة الواقع. في التاريخ كان الناس يلوذون بالأديرة وزوايا الصوفية وأضرحة الصالحين للتبرك وطلب العون.
في الحاضر، هناك مؤشرات على أن بعض الشعوب العربية ستلجأ إلى الروحانيات للهروب من أزمات الغذاء والماء، ولكن روحانيات من نوع خاص. هروب من ضنك العيش إلى العرافين الذين لا يكتفون بقراءة المستقبل، بل صاروا ينشرون الإعلانات في كل مكان لإظهار قدرات خارقة في معالجة مختلف الأمراض المستعصية.
طبعا تكاثر العرافين ورواج تجارتهم لا يأتيان من فراغ. فوراء صعود نجم العراف قصص كثيرة رواها عنه أميون وأنصاف متعلمين لم يغير فيهم التعليم والإعلام وتغييرات الحداثة الجارفة شيئا. هناك موظفون بدرجات علمية لا بأس بها يذهبون إلى العرافين طلبا للبركة وجلبا للسعد أو الرزق ومداواة العقم في شعوب ما تزال تعتقد أن تطورات العلم والطب والأشعة تعجز عن تسهيل حمل سيدة، وأن عرافا أو درويشا بلا علم ولا ثقافة يمكن أن يزرع الأمل ويجلب الولد والزوج أو الزوجة بورقة صغيرة يكتبها، حرزا كانت أو تعويذة، أو بمسحة خفيفة من لعابه الغالي النفيس.
وهناك أمثلة كثيرة عن عرافين أو شيوخ أو معالجين تملأ إعلاناتهم وسائل الإعلام وتصل أخبارهم وقصص كراماتهم وأياديهم التي “تجمّد الماء” إلى الآفاق في شعوب تميل إلى استسهال الحلول وتتكئ على الخرافة والسحر والمشعوذين لحل مشاكلها.
من هؤلاء العرافين الذين ملأت أخبارهم الآفاق، عراف يعيش في ضواحي العاصمة تونس، اسمه كمال المغربي. يعالج مرضاه بطريقة السهل الممتنع بالنفخ في إبريق الشاي، ويسمى في تونس بـ”البراد” (يا للمفارقة)، فتتطاير مع نفخاته البركات. أي معنى هذا، وأي ثقافة تجعل مواطنا أو مواطنة تنطلي عليها حكاية النفخ في الإبريق وقدرة النافخ على جلب الحبيب.
من طرائف هذا العراف الشهير أنه صار عضوا في نقابتين صحافيتين في نفس الوقت، لم تعد تكفيه شهرة “البراد” وقصص زبائنه الكثيرة، فاختار الصحافة، وأي صحافة، ليضيف “نجاحا” إلى “نجاحاته” الروحانية العجيبة.
طبعا لا ينسى التونسيون قصة العراف أبي القاسم، الذي يقنع زبوناته بأن علاجهن من العقم وتأخر الإنجاب لا يتم إلا بالمعاشرة، وحين اكتشف قصته برنامج تلفزيوني شهير في تونس “الحقائق الأربع” تداعت القصص العجيبة عن نساء يسلمن أنفسهن لـ”نبي” عصره من أجل التداوي من العقم.
آخر القصص لأحد المعممين كتب أنه يعتذر عن غيابه عن التغريد في تويتر لمدة معينة بسبب أنه ذهب إلى السرداب وسلم المهدي الأموال التي جمعها من الخمس، كاشفا عن أن المهدي “زعلان” ممن لم يدفعوا بعدُ. ليست المشكلة في أن يذهب إلى السرداب ويقابل من يعتقد أنه المهدي. ولكن في أن يحمل الأموال ويسلمها له ثم يأتي ليأخذ أموالا جديدة.
هل يمكن أن نصل إلى هذا المستوى من الاعتقاد، من الاستغراق في الغيبة الطويلة عن الواقع، ونهرب إلى الخرافة والشعوذة كطريق إلى المستقبل.