الشعر مهم لكن الأطفال يفضلون الحكايات

لا غنى عن الأدب في حياة الأطفال، إنه الوسيلة الأولى لنحت الخيال وفتح مدارك الصغار وترسيخ التفكير والخيال لديهم وتنشئتهم علميا وذوقيا وأخلاقيا، ولكن الكثير من الأدباء الذين يكتبون للأطفال يسقطون في الوعظ ولا يراعون تطور ذائقة الطفل، وخاصة الشعراء مازالوا يكررون الأناشيد القديمة بمعزل عن التحول الكبير في حياة ورؤى الطفولة.
مراكش (المغرب) - أجمع المشاركون في المنتدى الحواري “شعر الأطفال في المغرب: نصوص وشهادات”، والذي نظمته دار الشعر بمراكش الجمعة 28 ماي الماضي ضمن سلسلة ندواتها المخصصة للموسم الرابع، على ضرورة الاهتمام بالكتابات الموجهة للطفل في النسيج الثقافي والفني المغربي.
ورغم حداثة وجدة التجربة الشعرية الموجهة للطفل، فإن خصوصية النص الشعري تفترض وعيا حادا بهذه الفئة العمرية وحاجياتها النفسية والمعرفية، وخصوصية النص البنائية والمعرفية وحواريته مع أجناس تعبيرية من مجالات متعددة. كما توقف المشاركون عند سمات التجربة المغربية، من خلال نماذج الرواد والتجارب الحديثة، والتي أفرزت منجزا متواضعا يحتاج للمزيد من الاجتهاد والتخصيص.
الكتابة الصعبة
اللقاء الحواري “شعر الأطفال في المغرب: نصوص وشهادات”، والذي شهد مشاركة الشاعر مصطفى ملح، والمتوج بجائزة المغرب للكتاب، صنف الشعر (2019 – مناصفة)، والشاعر الطاهر لكنيزي، المتوج بجائزة المصطفى عزوز العربية لأدب الطفل، والمؤطرة والكاتبة كريمة دلياس، والتي راكمت تجربة مهمة في عوالم الكتابة والتأطير في هذا المجال، شهد تقديم شهادات حول علاقة الكتابة الشعرية بالطفل، وقراءة نصوص شعرية للأطفال، فيما خصص الجزء الثالث من هذا اللقاء لحوار مفتوح حول سمات “شعر الأطفال في المغرب” وخصوصية النص الشعري الموجه للطفل.
وقد أجمع المتدخلون على خصوصية هذه الندوة التي أعلنتها دار الشعر بمراكش، والتي تلامس الموضوعات والتيمات الجوهرية الآنية لقضايا الشعر المغربي اليوم.
وقد توجهت الكاتبة كريمة دلياس إلى تأكيد مركزية حضور الحكاية في حياة الطفل، ومنها برز دور ووظيفة الأدب الموجه إلى الطفل. وعبر تقصي لنماذج تطبيقية ومشاهدات وتجارب شخصية، خلصت الكاتبة إلى أن التجربة المغربية مازالت فتية في هذا المجال. وبالقدر الذي ترى أن الطفل ميال إلى النص الحكائي، والمعروض أمامه قرائيا، عبر وسائط “شخصيات حيوانية” أو عبر تفاعل الألوان، فإن النص الشعري يظل مهما غير أنه لا يمثل أولوية بالنسبة إلى الطفل، خصوصا لدى فئات عمرية تحديدا. ويضاف إلى هذا المعطى، توجه دور النشر، المتخصصة على قلتها، إلى التدخل في توجيه النص الخاص بالطفل.
اللقاء الحواري يبين التغيرات التي مست ذائقة الأطفال ويدعو إلى مراجعة المسلمات المتعلقة بالنص الإبداعي الموجه للطفل
الشاعر الطاهر لكنيزي، والذي شكل عالم التربية والتعليم بوابته الفعلية للانتقال إلى كتابة النص الشعري للأطفال، أعاد نسخ هذه العلاقة الإبداعية لكن بإصرار، على ضرورة “سلطة النص” وحضوره القوي في توجيه الطفل. ويثير لكنيزي هذه العلاقة المركبة والتي أمست الصورة والوسائط الأخرى تؤثر سلبا في نسج هذه العلاقة التربوية في علاقة الطفل بالنص الإبداعي الشعري، مصرا على ضرورة ربط الطفل به أولا وأخيرا. تجربة الشاعر، والتي استمدت مرجعيتها من حقل عمله التربوي، وأبرزت له جدواها كتجربة خاضها بعدما رسخ اسمه كشاعر حداثي. تبدو صعوبة التحديدات الاصطلاحية للطفل، في ارتباط بالمرجعيات والمعاجم، خصوصا عندما يتم الحديث عن علم اللغة وعلم التربية وعلم النفس وغيرها، وهنا تكمن أهمية الشعر في تجاوزها.
الشاعر مصطفى ملح، والذي راكم تجربة مهمة في إصدارات شعرية موجهة للطفل، فقد أثار علاقة الكتابة بالطفل لكن من خلال إرادة واعية في اختياره أن يتمثل طفولته. إذ مازالت خيالات وعوالم الطفولة حاضرة، وهو ما يؤشر على ضرورة الخروج من “تعالي الكاتب الكبير” والذي يوجه كلامه “للطفل”.
تجربة ملح الشعرية للأطفال انطلقت منذ عشرين سنة خلت في تماس مع الأطفال في مؤسسات تربوية، وهو ما جعله يبحث عن التخلص، فيما وسمه، بـ”البلاغة التقليدية” من النص الشعري والـ”مساحيق الاستعارية”، سعيا إلى كتابة نص شعري يستجيب لذائقته الخاصة، ينطلق من اليومي ليشكل نقطة ضوء قريبة من وجدان الطفل.
الكتابة للطفل صعبة، يشير ملح، لأنها موجهة لفئات عمرية ذات ميولات مركبة وخيالات أكثر اتساعا، كتابة مطالبة بمراعاة تطلعات وطموحات الطفل.
وإثر هذا الحوار اختار كل من الشعراء والكتاب كريمة دلياس والطاهر لكنيزي ومصطفى ملح أن يقدموا نصوصهم الشعرية والإبداعية من منجزهم وإصداراتهم الموجهة للطفل.
خصائص متغيرة
في محطة ثانية تتوقف عند خصوصية النص الشعري الموجه للطفل، وأيضا محاولة تلمس سماته البنائية والتركيبية، في تعارض للرؤى، فقد شكل هذا الحيز معطى إيجابيا في هذا اللقاء الحواري، والذي شهد نقاشا رصينا كل يدافع بحمولاته المعرفية عن تصورات ذاتية، بمرجعياتها الثقافية ومن خلال التجربة الخاصة.
ويبدو لافتا أنه يصعب تحديد خاصيات متفق عليها، لمبادئ عامة محددة للنص، وطبيعيته، دون تحديد فئات عمرية وحاجياتها تبعا لعوامل أخرى تتحكم في هذا الاختيار.
وكانت التجربة المغربية في مجال أدب الطفل قد انطلقت مبكرا منذ مطلع القرن الماضي، إذ شكلت “صحيفة الأطفال”، وهي صفحة خصصتها صحيفة العلم المغربية للاهتمام بأدب الطفل ابتداء من عام 1947، الانطلاقة الفعلية، للاهتمام المشهد الإعلامي المغربي بالكتابات الموجهة للطفل.

كما شكلت مرحلة الأربعينات من القرن الماضي البدايات الفعلية لحضور أدب الطفل في المشهد الثقافي المغربي. وأسهم توالي ظهور جرائد أخرى تهتم بأدب الطفل، ومجلات متخصصة (كالمزمار والتلميذ والعندليب والسندباد الصغير ومجلة أزهار والمغامر، ومناهل الأطفال، التي كانت تسهر عليها الوزارة المكلفة بالشؤون الثقافية، واليوم عادت الوزارة لتصدر مجلة متخصصة للطفل بعنوان “اقرأ”)، هذا إلى جانب ظهور أسماء رائدة، خصوصا في كتابة القصة الموجهة للأطفال، كالعربي بنجلون وأحمد عبدالسلام البقالي ومصطفى رسام وعبدالفتاح الأزرق ومحمد الصباغ ومحمد سعيد سوسان ومحمد إبراهيم بوعلو.. وغيرهم.
وتشكل المراحل الأولى لاستقلال المغرب، النواة التأسيسية والتأصيلية للاهتمام بأدب الطفل في المغرب. ليتحول إلى مراحل سعت إلى الانتقال من مرحلة الظهور (مع البقالي والرحماني) إلى مرحلة التطور والتي شهدت وعيا بخصوصية الطفل، انتهاء بالمرحلة الحديثة الأخيرة والتي أمست فيها دور نشر متخصصة (يوماد، ينبع..)، المدهش فيها أنها تقودها كاتبات مغربيات، هن أنفسهن اخترن الكتابة للطفل، إلى جانب ظهور خطاب أكاديمي نقدي حول هذا الأدب.
وبالعودة إلى خصائص الكتابة الشعرية الموجهة للطفل، توقف المشاركون في اللقاء الحواري لدار الشعر بمراكش عند “بنية النص الشكلية أو المورفولوجية، أي البناء الخارجي للنص، من حيث حجم النص الأدبي وكميته، والخاصيات والأهداف الموجهة: الهدف اللغوي، التعليمي، التربوي، الأخلاقي والسلوكي والاجتماعي، الفني والجمالي الملائم للمراحل العمرية للطفل”. فيما يمكن إجمال هذه الخصائص في ضرورة تبسيط المستجدات المعرفية، والابتعاد عن التعقيد اللغوي والفني والبلاغي وإغراق الطفل بالأساطير الخرافية والاستطرادات، وضرورة مراعاة التعبير الفني المناسب، وفقا لخصائص كل فئة عمرية.
وقد نوهت بعض المداخلات إلى ضرورة الانتباه لمعطى جديد يرتبط بالتغيرات والتحولات التي مست ذائقة الأطفال، وهو ما أفضى إلى مراجعة بعض المسلمات المتعلقة بالنص الإبداعي الموجه للطفل. وأيضا تغيرات لامست المفهوم نفسه لـ”أدب الطفل”، في ارتباط بأنماط التفكير التربوية الحديثة والمستجدات المتلاحقة للوسائط التكنولوجية. هذا الثراء النوعي الحديث، بموازاة الثراء اللغوي والبصري، أمسى يطرح نفسه على “أي نص (شعري أو حكائي) يلائم أطفالنا اليوم”؟
لقد شكلت ندوة دار الشعر بمراكش “شعر الأطفال في المغرب: نصوص وشهادات” لحظة معرفية أخرى فعلية تضاف لاستراتيجية الدار التي اختارت منذ 2017 أن تترجم إرادتها في الارتباط بالأسئلة المركزية للخطاب الشعري المغربي، والإنصات الفعلي للنسيج المتعدد والمركب للهوية الشعرية المغربية، ولشجرة الشعر المغربي الوارفة والمتعددة. تجارب من كل الأجيال والحساسيات والأصوات، بروادها وراهنها وبأصوات شبابها، بشعرائها ونقادها، وعيا بالظرفية الراهنة اليوم، والتي أمست تدفعنا إلى ربط الشعر والممارسة الثقافية عموما بالمجتمع، في سنة اختارت دار الشعر بمراكش أن تحتفي بالتنوع الثقافي المغربي.