الشعر أو الكتابة بأذرع مفتوحة

الشاعر المعاصر يحوّل حياته ومقروءه إلى استعارات، مشيّدا معمار بلاغته الخاصة المستندة إلى المتراكم والقادم من الزمن.
الأحد 2023/09/24
الشاعر يهوي بنا إلى ذاته (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

ليست غاية الشعر التدمير، أو إعلان حرب أو القيام بأي غارة ليلية أو السير نهارا لغزو أراضي الغير، أو دسّ قنابل في جيب قارئ، أو حرق غابات المعاني وتمزيق الواقع إلى أشلاء يستعصي جمعها. فليس الشاعر مسيحا باستطاعته النفخ فيها لإحيائها. غير أن الشعر يظل حالة مأساوية ذاتية. وإِبَانَة وبياناً للذهاب فرحا إلى الهاوية، صعودا عبر سلالم النص المضرّج بدماء الاستعارات والمجازات.

لهذا أهاب النص الدسم بلغات التشبيه، العامر بقول ما لا ينطبق على واقع صاحبه، وحده النص الصادق ذلك الذي يتطابق مع كاتبه، حدّ الدهشة. هذا يقودنا مبتهجين صوب الجحيم، محملين بذنب الشاعر الوحيد: البحث عن غامض في وضح النهار، والانغماس الملعون في قاموس الحواس.

بهذا يغدو الشاعر ديوجيناً، ويصير النص ذريعة للإلقاء بنفسه في قبضة القراصنة، وأن يجرب تراجيديا تكبيل جسده والسباحة بالقيود، وحدها الحرية تعلمنا الرتابة، ووحدها الأغلال تعلمنا معنى الحياة.

◙ قوة الشعر لدى الشاعر المعاصر تتكئ على زمنية الخالد وزمنية المنفلت، على الممكن القبض عليه وعلى المنزلق والنزق

لا أقصد البقاء قيدها، لكن أن نتعلم منها بهجة الحياة، أن نحيا بأزمة وفي أزمة، هكذا يتحقق النص الصادق، حيث لا يدعونا الشاعر إلى الخراب، لكنه يعلي منه. لأنه حاصل لا مفر من حدوثه. العالم منذور لليباب. مصاب بلعنة “الأزمة”. لهذا لا يحمل الشاعر في يده أي أسلحة للدمار الشامل، غير أنه يستثمر طاقتها الرهيبة في حشو استعاراته بألاعيب لغوية طافِحةٍ بأقصى حالات الدمار. مما يصير بالنص ألا يهادن أي شيء وألا يؤاخي أيا كان.

الشاعر صانع القنابل النووية، أوبنهايمر نصه، لكنه لا يحمل أي إمكانية لتفجيرها في أي مكان. مما يجعل منه مدانا بشعره. مدانا بنصه المتفجر. جريمته الكبرى هي الكتابة، التي لا تصح إلا بأذرع مفتوحة تحتضن الضحايا وتضمه إلى معترك إعادة الكتابة: التأويل؛ لعنة العود الأبدي التي تصيب النص.

يقع سر النص الصادق في الشاعر ذاته، في تحققه جسدا ملموسا في حروفه وكلماته المنبعثة منه. نوع من الأسطورة، إلا أنها قابلة الإمكان. لهذا على الشاعر أن يكتب النص الذي يشبهه. نص خفيف لا يهرب إلى أي شعرية منبنية على أي كوليسترول النصوص الأخرى. نص يخبئ بمهارة أسراره، مشحون بقوة قاهرة، (أستعير التعبير من كليمون روسي)، سمتها الابتهاج. الارتماء في حضن العالم بكل مآسيه وأزماته بأذرع مفتوحة وفرح غامر.

على الشاعر أن يهوى ويتعلم التلاعب بالكلمات ضمن سياقات شعرية خاصة، تهبها إيقاعا داخليا وخارجيا في آن، وفي الوقت عينه تمنحها قابلية التأويل المتاهي المحيط بأسوار من زجاج شفاف. أن يوهمك أن دخوله سهل وأن عبوره يسير، غير أن مسالكه ودروبه عصية على السبر، يلزمك في الكثير من الأوقات كشاف وامض من ماركة مسجلة وخريطة من زمن الأولين.

المطلوب عند عتبة كل نص أن يهوي بنا الشاعر عميقا إلى الدرك السحيق من الذات. حيث تتحقق إنيّته الخالصة والصافية، ويبلغ منابع نصه الخاص. هناك حيث “يغرس الأصابع في جروح عميقة”، حتى تنسكب مياه لذة منسية فيها. فيعمد إلى سلك تلك الدروب المستعصية، واضعا أصابعه في ثغور القديم والمعاصر، إذ يكتب مفكرا في الموروث القائم والمُحدَث المتحرك، في آن. لا يهتم إلا بالشعر، أما قالبه المفعّل أو المنثور في حقول المعرفة وأساليب الكتابة فيأتي في الدرجة الثانية اختيارا، بعد اللغة التي يهبها الحضور الأسمى.

◙ الشاعر لا يحمل في يده أي أسلحة للدمار الشامل، غير أنه يستثمر طاقتها الرهيبة في حشو استعاراته بألاعيب لغوية طافِحةٍ بأقصى حالات الدمار

لا ينبغي اليوم أن يهتدي الشاعر إلى البلاغة القديمة أحيانا، ليطمئن حدها، لكن ليستثمرها بوصفها دربا من دروب اللعب اللغوي في بناء نصه الشعري. إذ إن قوام الشعر الحديث والمعاصر كامن في التصالح مع الموروث والانفتاح على الجديد، وفتح نوافذ لهبوب رياح القادم من المستقبل البعيد، وسلك فجاج الغواية وولوج مفاتن الكتابة بالجسد كاملا، والإقامة في أخاديد المعاني الملتوية، والتدرب على الصعود -ولو بشق الأنفس- إلى أعالي التضاريس الوعرة المترادفة كجبال وهضاب وسهول، التي تسيل مياه أوديتها بلا انقطاع، دون الهلع من دخول الغابات المظلمة. سلاح الشاعر الوحيد فأسه، التي يقطع بها أشجار المعاني ويجني ثمارها العجيبة.

يحوّل الشاعر المعاصر حياته ومقروءه إلى استعارات، مشيدا معمار بلاغته الخاصة، المستندة إلى المتراكم والقادم من الزمن السحيق، والموروث الجمالي المتشعب المظاهر والأشكال، وعلى الراهن واليومي وبلاغة المتغير والزائل والهارب من الزمن. بهذا المعنى فقوة الشعر لديه تتكئ على زمنية الخالد وزمنية المنفلت، على الممكن القبض عليه وعلى المنزلق والنزق. مما يجعل من الاستعارات والمجازات تتحرك صعودا ونزولا، يمينا وشمالا، فيُقرأ النص في كل الاتجاهات.

يعزز ذلك تلك الإمكانات القرائية التي يتحصل عليها من خلال كلماتٍ عارية من أدوات التشكيل وأقفال الحركات وأصفاد الأوزان الثقيلة، خارجا إلى الوجود في “الليالي” الضائعة، مهتديا بمصباح خافت لا يهاب وحوش اللغة الضارية، همه الوحيد سلْكُ الدرب لا بلوغ المقصد، فالطريق أهم من الوصول، وهو ما يمنح النص الواحد أوجه القراءة المتعددة، أي تشعب الطرق وتعقد المسالك وتفرع السُبل، ليتحول النص إلى أثر مكتوب على أثر آخر، محو على محو، وكلام على كلام، وطرس على طرس، انتصارا للمكتوب: المنجز، لا المتوارث شفاهيا.

مما يلغي عنه أي قراءة شفاهية مَنبرية، تتبع مسالك الغنائية المؤدلجة بلحن صوتي لا يضيف إلى النص إلا موسيقى لا تنتمي أبدا إلى صلب المعنى وجوهر الدلالة وأسّ التأويل. فما أن يُلغى كل هذا حتى تحيا القراءة بفعل قابلية التأويل المشرع على كل الشطآن. إذ ما إن يضع النصُ بضائعه ويكشف عن حمولته، حتى يُشحن بأخرى ويقصد ضفة شاطئ جديد. إنه نص مترحل ومهاجر باستمرار، بهذا المعنى.

9