الشعراء والمحررون الثقافيون علاقة مختلة تشبه تأثير الفراشة

إذا سألنا ما الذي يشكل الساحة الأدبية، سنجد العناصر التالية: الكاتب والقارئ وصناعة الكتاب والصحافة. تتكامل فيما بينها وكل خلل لعنصر من عناصرها يفضي بالضرورة إلى ساحة أدبية مشوهة. في الواقع العربي باستثناء بعض المحاولات القليلة فقد فشل العرب في خلق ساحة أدبية متكاملة العناصر، نظرا إلى العلاقات المختلة، خاصة في ناحية العلاقة بين الكاتب والصحافة والتحرير وصناعة الكتاب والترويج له.
تبدو العلاقة مضطربة للغاية بين الشعراء العرب والمحررين، سواء الأدبيين أو الصحافيين، إذ يرفض الشعراء غالبا تحرير قصائدهم، وهذا أمر مفهوم إذ النص الشعري يقوم على الكلمة والإنشاء لا الإخبار وهو ما يجعل النص ذات صاحبه، لكنهم يتجاوزون ذلك إلى رفض تغيير العناوين أو بعض الكلمات أو التراكيب، وهذا أمر مبالغ فيه.
أما العلاقة بالمحررين الصحافيين المشرفين على المجلات والصفحات الثقافية في المنابر الإعلامية العربية، فهي علاقة تخرج من المهني إلى الذاتي، المسرف في ذاتيته إن صحت العبارة. ولذا نجدها مليئة بالمجاملات والإلحاح على النشر والمتابعة التي ترقى إلى الملاحقة، وما يعقد الأمر أكثر هو أن أغلب هؤلاء المحررين بدورهم شعراء وكتاب، وبالتالي لك أن تتخيل مقدار المجاملة والذاتية القصوى التي تنشأ.
علاقات ذاتية
كان بالإمكان في الواقع العربي خلق منظومة أكثر تكافؤا بين عناصر الساحة الأدبية لإخراجها من الذاتيات
في ضوء العلاقة بين المحرر الصحافي والشاعر العربي نشأت منظومة أدبية يغيب عنها النقد (وإن حضر على حياء كي لا نعمم) ويهيمن عليها نوع من الشللية والصداقات والعلاقات الذاتية. يزيد الأمر ذاتية إذا عرفنا بأن المحررين أنفسهم أدباء وشعراء، ونحن نعلم جيدا علاقة الأدباء والشعراء بالشعراء والأدباء الآخرين، علاقة تحكمها الأنانية والكراهية أحيانا أو الانتماء الشللي الأعمى، والتقلبات المزاجية التي لا تهدأ، فتعلي من ذاك وتحط من ذاك.
لا ننكر أبدا الدور الكبير الذي لعبه الأدباء والشعراء في إشرافهم على المنابر الثقافية العربية، إذ صنعوا المشهد الثقافي الحداثي برمته، مطلع القرن العشرين وفي منتصفه، ويكفي مثلا أن نلاحظ تأثير مجلة “شعر” في لبنان التي أسسها وترأس تحريرها الشاعر اللبناني يوسف الخال، وذهبت على نفس منوال مجلة “شعر” الأميركية التي أطلقتها الشاعرة والصحافية الأميركية هارييت مونرو عام 1912، في انتصارها لقصيدة النثر والنص الشعري الحديث.
من خلال هكذا توجه كانت المنابر الثقافية العربية تصنع المشهد الثقافي لا الشعري فحسب، وفق توجهات المشرفين عليها، فيتسع المدى باتساع معارف المشرفين وانفتاحهم، ويضيق إذا ضاقت آفاق المشرفين، وبالتالي بقي الأمر ذاتيا، ولم ينجح في أن يصبح منظومة تستمر على غرار مجلة شعر الأميركية، حتى برحيل المؤسسين وتغير المشرفين.
المنابر الإعلامية العربية اليوم تراجعت جزئيا عن نشر الشعر ومتابعته لصالح الرواية والسينما والأعمال البصرية وغيرها من فنون أخرى، لكن ورغم ذلك لم تتغير العلاقة بين الشعراء والمحررين في تركيزها على الجانب الذاتي وعدم البحث عن بدائل لنشر الشعر، الذي أصابته فوضى كبرى بتكاثر “الذاتيات” التي تحرك النص الشعري، فبتنا نرى من يرتدون إلى البناء الكلاسيكي ومن يحاولون إلغاء كل التراث الشعري ومن يتعصبون لهذا الشكل أو ذاك، وغيره من مظاهر لم تفد الشعر في شيء، بل زادت أزمته سوءا.
إنه لمن المفارقة أن تعدد المنابر الإعلامية وانفتاحها على المجال الإلكتروني وسرعة الوصول إليه وغيرها مما يتوفر اليوم زاد من تضييق الخناق على الشعر، إذ غرق في فوضى كبرى، زادت من تعميقها صفحات الفيسبوك (الشخصية وحتى المجموعات الأدبية) التي تقترح نفسها منابر بديلة، لكنها لا تقدم إلا مزيجا رديئا من الفوضى.
تأثير فراشة
لطالما قلنا إن الادعاء بأن هذا ليس زمن الشعر فكرة مغلوطة تماما، وخير دليل كم ما ينشر على صفحات الفيسبوك أو تويتر، مما يدعي أصحابها أنه شعر.
تتطرق الكاتبة المغربية نصيرة تختوخ في مقال لها نشر في عدد سبتمبر من سنة 2020 في مجلة الجديد الثقافية بعنوان “رسالة إلى الشعراء” تقارب فيه كتاب “كراهية الشعر” للشاعر الأميركي بن لرنر، إلى بعض من الأسرار حول إصرار البعض على نشر القصائد.
يذكر الكاتب من تجربته كرئيس تحرير مجلة صغيرة للشعر والفن في بداية الألفية أنه كان يتلقى عددا ثابتا من المراسلات من أشخاص، كان من الواضح أنهم ليسوا متابعين للمجلة لكنهم كانوا يعبرون في رسائلهم عن رغبتهم اللافتة واليائسة في الانتباه إليهم، في أن يروا قصائدهم منشورة في مكان ما.
في عشرات الرسائل كان “الشاعر” المرسل لما يعتقده قصائد يشرح بأنه يعاني من مرض مميت وأنه يريد رؤية قصائده منشورة قبل وفاته، وفي عدد منها تكررت الجملة نفسها “لا أعرف كم يتبقى لي من الوقت”. بعض الرسائل التي وصلته كانت أيضا من مساجين امتلكوا الإحساس بأن نشر شعرهم هو الطريقة المثلى ليثبتوا أنهم ليسوا مجرد مجرمين، بل كائنات إنسانية أيضا.
هناك سر في طلب نشر القصائد. كأنها نوع من الاعتراف الأدبي والوجودي. الكثير من الروائيين مثلا يحاولون نشر قصائد لهم. لا مردودية للشعر ولا هو صناعة مثل الرواية. ولذا فقد حافظ على تلك النضارة الإنسانية بصفته وسيلة نقية لإثبات المشاعر، وإعلاء قيمة البشر الذاتية.
لكن المنابر الإعلامية التقليدية تحكمها علاقات ذاتية معقدة قد لا تناسب البعض، بينما المنابر الإلكترونية مازالت بعيدة عن الاعتراف بها وبجدراتها، وبين هذا وذاك تضيع فرصة الكثيرين للتعبير عن ذواتهم. ففي النهاية ليست وظيفة القصيدة الأولى أن يصبح كاتبها شاعرا، وإنما وظيفتها أعمق بكثير، إنها فعل وجودي، يمكن أن يكون مرثية ما، حالة حزن، حالة حب أو غزل، شكرا، أو حتى فكرة عابرة أو ذكرى بعيدة.
ربما كان بالإمكان في الواقع العربي خلق منظومة أكثر تكافؤا بين العناصر التي تشكل الساحة الأدبية لإخراجها من الذاتيات والمجاملات والبهرج الزائف، فاختلال العلاقة بين الشاعر والمحرر الصحافي مثلا، يليه بالتالي علاقة مختلة مع القارئ الذي يستضيء بمقالات مكذوبة عن نصوص لا قيمة لها، وما ينجر عنه من ظاهرة الكتاب الأكثر مبيعا وبالتالي ميل الناشرين إلى من يبيع ولا يهم جودة النص. هل نرى: خلل واحد يقود إلى خلل شامل كأنه تأثير فراشة أو قطعة دومينو تسقط كل البناء؟