الشركات الوسيطة لتشغيل العمالة في تونس بين الضرورة والاستغلال

تعمل الحكومة التونسية على وقف العمل بنظام المناولة والمقصود به وجود شركات وسيطة بين العامل أو الموظف والشركة التي تتولى التشغيل التي لا يربطها بالعامل سوى العمل فيما تتولى الشركة الوسيطة تسديد الرواتب والإيفاء بتعهداتها للضمان الاجتماعي والضرائب الموجهة للدولة عن رواتب العمال والموظفين.
الصورة التي تنطبع عن هذه الشركات في أذهان التونسيين هي أنها شركات للتلاعب بالقانون والاستثراء دون وجه حق، فهي تأخذ من الشركة المشغلة أرقاما أكبر للرواتب مما تعطيه للعمالة والموظفين. والشركة المشغلة تبرّئ نفسها من أيّ التزام قانوني تجاه العامل والدولة، فيما تحصل الشركة الوسيطة على أموال هي بالأصل موجهة للعمال والخدمات الصحية والضرائب، فيخسر العمال والدولة معا من هذه الصيغة الالتفافية خاصة أن أغلبية شركات المناولة تعطي رواتب ضعيفة وتتهرب من دفع الضرائب والالتزامات للضمان الاجتماعي تحت مسوّغات شتى مع معرفة أصحابها بالحيل القانونية.
لكن المشكلة لا تقف هنا، فشركات المناولة قانونية ومعترف بها من الدولة، وهناك شركات مناولة صارت متخصصة في توظيف الآلاف من العمال والموظفين تحت مرمى ومسعى من الدولة. والتراجع عن هذا النوع من الشركات سيعني دفع الآلاف من العمال إلى البطالة بمن في ذلك من يشتغلون حاليا وليس فقط الذين ينتظرون دورهم في الحصول على فرص عمل من بوابة هذه الشركات.
لقد تأسست هذه الشركات وفق مقاربة اقتصادية لتشجيع الشركات على استقطاب المزيد من العمالة بمقاييس غير متشددة ماليا وإداريا. والتخلي عن هذا النظام والتلويح بتشديد العقوبات على من يعمل به سيعني أن شركات المناولة ستحل نفسها بنفسها، وأن الشركات التي تتولى التشغيل ستدفع إلى التخلص من آلاف العمال والموظفين الذين استقدمتهم على أساس المقاييس المتفق عليها. فهل سيقبل رجال الأعمال وأصحاب المال بالحفاظ على آلاف الموظفين والعمال وتحمل أعباء كبيرة هم في غنى عنها. يبدو الأمر مستبعدا، ولو حصل، فإن الإبقاء سيشمل أعدادا أقل مما هو موجود.
◙ الصورة التي تنطبع عن هذه الشركات في أذهان التونسيين هي أنها شركات للتلاعب بالقانون، فهي تأخذ من الشركة المشغلة أرقاما أكبر للرواتب مما تعطيه للعمالة
وهناك مشكلة أخرى مهمة يبدو أن الحكومة لم تنظر إليها، وهي أن التلاعب في مجال المناولة يتم عادة بين شركات تونسية تعرف السوق وقوانينه والقانون وثغراته، وهي التي تتسبب في العمالة الهشة. لكن هناك شركات أجنبية في السوق التونسية لا تستطيع أن توظف عمالا أو موظفين لصالحها باسم الشركة الأم الموجودة في بلد التأسيس، وهي تحتاج إلى شركة محلية لتحل عبرها مشكلة الضمان الاجتماعي والاقتطاع لصالح الدولة بشكل يؤمّن للعامل مساهمته في الضمان الاجتماعي ليحصل على التقاعد (المعاش).
ويفسّر القانون التونسي عقود المناولة على أنها آلية تقوم على علاقة تعاقدية بين ثلاث جهات، بين مؤسسة أصلية متمتعة بالخدمة، ومؤسسة ثانية تسمّى "شركة مناولة" وفق عقد إسداء خدمة، والعامل. وتقوم شركة المناولة بوضع عمال على ذمة الشركة الأولى وفق عقد عمل مقابل جزء من الأجر.
وكان من المهم لو أن الحكومة قد تعاملت مع الأمر بأسلوب أكثر مرونة بدل الدفع إلى إنهاء العمل بالمناولة عبر خلق شروط معقدة والتلويح بالعقوبات. والحل في أن تتولى الجهات الرقابية متابعة عمل هذه المؤسسات ومحاربة الفساد داخلها بمقاربة عقودها مع الشركات المشغلة وما يحصل عليه الموظفون.
وسبب هذه الأزمة، أن الدولة تخلت عن دورها لعقود، وخاصة بعد ثورة 2011، وظل همها الوحيد مجاراة الوضع دون إغضاب أيّ جهة أو رجل أعمال حتى لا يكون مسنودا من دوائر عليا، وذهب الموظف أو العامل ضحية هذا الصمت، كما شجع أصحاب شركات المناولة على التمادي في التلاعب بالقانون، وتأسست بفعل ذلك شركات أخرى للمناولة تحت عنوان تأمين الربح السهل.
الآن الدولة استفاقت في ظل حرص الرئيس قيس سعيد على محاربة الفساد بأنواعه، وأيّ باب يفتحه على قطاع يجد أن اللوبيات قد نخرته نخرا ولعقود. لكن الحل لا يكمن في إغلاق القطاع عقابا للفاسدين، فهناك متضررون سيزداد ضررهم في حال تم إنهاء العمل بنظام المناولة وقررت الشركات تقليص العمال ضمن سياسة التقشف والتحكم في ميزانياتها بما يراعي ظروفها.
لا يمكن للحكومة أن تحارب الجميع في كل اتجاه، فهذا سيصبح أشبه بمحاولة وقف طواحين الريح في يوم عاصف. الحل في تكليف فرق عمل تدرس واقع القطاعات وتخرج بنتائج تكون واقعية تأخذ فيها رأي مختلف الأطراف، وخاصة رجال الأعمال الذين لا يمكن تحميلهم مسؤولية كل الفساد في القطاعات الاقتصادية والخدمية. أغلبهم متضرر من صعود طبقة من الطفيليين ظهرت من خلال تحالف انتهازي بناه سياسيون قبل الثورة وبعدها مع فئة متسلقة من أصحاب المال لتأمين بقائهم في السلطة على حساب رجال الأعمال الأصليين.
◙ التلاعب في مجال المناولة يتم عادة بين شركات تونسية تعرف السوق وقوانينه والقانون وثغراته وهي التي تتسبب في العمالة الهشة
كما أن مشكلة المناولة لا تهم القطاع الخاص. هناك مؤسسات حكومية ووزارات معروفة تعمل بالمناولة، وما يزال هناك عمّال وموظفون وأساتذة ومعلمون يعملون تحت هذا السقف ويطالبون بدمجهم في مؤسسات الحكومة بصف رسمية. وبعد ثورة 2011 تم إدماج جميع عمال المناولة في القطاع العام والوظيفة العمومية، لكن لا يزال الآلاف يرزحون تحت هذا النظام الهش من التشغيل في عدة قطاعات خاصة مقابل أجور زهيدة وفي الغالب دون ضمانات بالتغطيات الاجتماعية والصحية.
وكانت رئاسة الحكومة أعلنت بداية العام الحالي قرار تحجير إبرام عقود مناولة جديدة بالقطاع العمومي بعد أن وصف سعيد المناولة بأنها “نوع من أنواع الاتجار بالبشر، اتجار ببؤس الفقراء وبعرقهم.” والمشكلة الأكبر، التي تمسّ في جوهرها مقولة الدولة الاجتماعية التي تعتمدها الحكومة لتفسير قرار التخلص من المناولة، تتعلق بوضع العمال والموظفين الذين سيخسرون وظائفهم بعد سقوط نظام المناولة، فأي مصير لهم، وكيف ستقارب الحكومة هذا الملف.
هل ستصمت وكأن الأمر لا يعنيها، ووقتها سيتم اتهامها بالتسبب في إلحاق الآلاف بصفوف البطالة وقطع الطريق أمام آلاف آخرين في الحصول على وظائف ولو كانت هشة بدلا من البطالة. أكيد أن الحكومة لديها رؤية للموضوع، وأن محركها ليس فقط الانتصار لفكرة الدولة الاجتماعية التي يطالب بها الرئيس سعيد، وهي مطلب بقدر ما هو مهم، فهو يتطلب وقتا وإمكانيات، وخاصة وضعا اقتصاديا ملائم تقدر فيه الدولة على مراكمة عائدات الضرائب لتأمين الخدمات الضرورية.
هل ستلجأ مجددا إلى القطاع العام لتوظيف من تضرّروا من نظام المناولة سواء في القطاع العام أو الخاص، وهل هذا ممكن، وهل تقدر الدولة على المزيد من التوظيف، وهي التي تجدّد حلولا بالكاد لأزمات المناولة في القطاع العام. لا أحد يعارض أن تتولّى الدولة دورا مهما في النهوض بأوضاع الناس وخدمتهم وتحسين شروط عيشهم، لكن الأمر يحتاج إلى مرونة للوصول إلى الهدف الأكبر، أي الدولة الاجتماعية.