الشاعر عندما يريد أن يكون كلبا يعض العالم

تمتلك تجربة ميليشيا الثقافة في العراق حساسية جمالية للعالم خارجة عن المألوف، إذ يتجاوز شعراؤها المرثيات والبكائيات والتأملات الكيتشية التي تقف نادبة الخراب، ليغدو “الشعر” مشاركة عضوية في هيكلة الخراب، فيعيد تشكيل مفرداته ليختن نفسه مقتحما حُفر الشظايا والموت ملهبا إياها.
السبت 2016/09/03
أجساد ليست كما كانت

يعتبر شعر ما بعد الخراب الذي “تمارسه” ميليشيا الثقافة صرخة بوجه الشعر العنين، الذي يهاب الدخول في مستنقعات الخراب وجثث الأنبياء والأطفال، خوفا من ملمس البشريّ بعد تشظيه، وتكويناته التي لا تشبهنا نحن الأسوياء المتمتعين بأنفاسنا المتلاحقة.

يستلّ الشاعر العراقي علي ذرب، وهو واحد من مؤسسي ميليشيا الثقافة، “هراوته الشعريّة” لينسج لطميّة تتداخل فيها دماؤه مع دماء من حوله، فيتفتت أمامنا كبدا ورئة وعينا، ليعيد تجميع جسده بشرايين من شعر ينبض فيها غضبا وكراهية وبعضا من ذاكرة مشوهة يحاول لملمتها في أكياس بلاستيكيّة، ليحفظها لجسد آخر يسعى إلى بنائه مستقبلا.

جسد الغول

مغامرة رجيميّة ما نقرأه في ديوان ذرب الأخير “سأتذكر أنني كلب وأعضك أيّها العالم” الصادر عن دار مخطوطات هذا العام، لنواكب معه عوالم من يباب ووضعيات جسديّة لا تشبه إلا تلك التي يتقنها سفّاح يتمتم تعويذة لخلق مسوخه. ويعيد ذرب تكوين علاقته الفيزيائية مع العالم وكأنه تشظّى في انفجار، ثم يعيد ترتيب أوصاله بطريقة مغايرة، لتتغير وظائف أعضائه التي انزاحت عن خصائصها الوظيفية، لتكون العلامة الجسدية هنا شعرية وفق استخدامها الجديد. فاليد قد تصبح كبدا، والساق قد تصبح قلبا، وكأننا أمام رقعة من جسد يتغير تكوينه في كل سياق/قصيدة، يقول ذرب “الجلوس في كف قاتل/ يحتاج منك أن تكون أنثى حتى وإن كانت مُشعرة/ أن تتأكد من أنه لن يجدك عكازا حين يصاب لعابه بالعمى/ ألا تتخذ ساقيك شكل خيطين/ لتمسّد بقايا اللحم العالق بين أسنانه/ وقبل ذلك عليك أن تشتري لأخيك الصغير مسدسا بلاستيكيا/ ولأبيك نظارة شمسية أكبر من وجهه/ وأن ترسم عينا على ورقة وتتركها على سريرك/ كي تحدق في غيابك”.

مع الشاعر نتحسس تقنيات مغايرة للارتقاء الشعري، إذ يتحدى النظرة التي ترى الشعر تنويرا وتساميا راسما صورة سوريالية

التشكيلات الجسديّة التي يفكك عبرها ذرب الجسد تجعل القصيدة سلسلة من حواس مقطوعة لا تصرخ نحيبا، فالأخير مرتبط بالعنف وزواله، لكن العنف مازال موجودا وحاضرا دوما، لتغدو القصيدة/الجسد أشبه بجين خبيث سرطاني يأخذ شكل الخلايا التي تصاب بالعدوى فينقسم ليزرع فيها الشعر/الخراب.

وتحضر في ديوان ذرب وضعيات كافكاوية تزيح اليومي عن ابتذاله لتدخله في شرخ المتخيل ليمتد هذا الشرخ ناصبا العداء لكل من حوله كثقب أسود يبتلع ويتطاول، أشبه بماكنة كافكاويّة تشابه تلك التي نقرأها في رواية “في مستوطنة العقاب”. ولكن الاختلاف أن ماكنة ذرب الجهنميّة ليست للسجناء، بل هي للجميع، تبتلع من حولها ثم تعيد تشكيلهم ليكونوا جزءا منها، لتكوّن جسد الحرب المتحرك، ذلك الذي يبتلع شبقا الأجساد والأفكار والأطفال والضحايا ليزداد شراهة مع كل نفس يسرقه، إذ نقرأ “كل الداخلين إلى قوسي الاحتضار/ كانوا يضغطون على أعصابهم/ بأطراف الجرائد/ وهم يدفعون الحيوانات التي نمت/ بجوار النزيف/ إلى داخلنا/ وها نحن اليوم ندجّن من أجلهم/ أذرع الصغار/ لتلعق حيلة الدخان فم الزائر/ الذي دق خوفه على إطار المرآة/ تاركا شكله يتكسر/ على حواف أحدنا/بينما نتجعد لنمر من إحدى/ حلقات بنطاله الأسود”.

وضعيات كافكاوية تحضر في الديوان

أمعاء نحو السماء

نتحسّس مع ذرب في ديوانه تقنيات مغايرة للارتقاء الشعري، إذ يتحدى النظرة التي ترى في الشعر تنويرا وتساميا ليعيد إنتاج “بارودي” عنها، راسما صورة سورياليّة، تختبر حدود المتخيّل وإمكانياته اللامتناهية، فإن كان الشعر فعلا تساميا، فلنجعل أجسادنا وأشلاءنا أنابيب نتسلقها بأنيابنا وأظفارنا نحو الأعلى، لنجتمع في مهرجان من اللحم المعذّب كي نصعد عاليا إلى هناك، متشابهين أو مختلفين، أقرباء أو بعيدين.

كلنا لحم واحد نحو ضوء ما في الأعلى، إذ يقول “المدينة بأكملها تدخل إلى بيتنا/فيصعد أبي إلى كتفي/ وأمي إلى كتفيه/ وأختي الكبيرة تحت أٌقدام أختي الصغيرة/ هكذا نشكّل عمودا بشريا/ وسط العميان وأصحاب السيقان المقطوعة/ وكذلك أصحاب الذراع الواحدة/ الكثير من النساء تخلع أسنانها الرخوة/ تدفعها في عيون الصغر..”، هذه الوضعيات الجسدية تتبدل في الديوان، لنقرأ هشيما من الأصابع، ومتاهات من أمعاء تنفرد على رقعة عراق يحكمه الدم والخراب والفساد، كل هذا ينصبّ على جمجمة العراقي الذي يلملم أجفانه لمسح التراب عن وجه طفل بلا وجنتين.

ومنذ العنوان يتضح موقف ذرب الشعري تجاه من حوله، فالعالم بحاجة إلى تأديب، ولا بد من كلاب ضارية تنهش لحمه المختلط بلحمنا ولحم الأعداء ذي نكهة البارود والدم. لا بد من نباح نحاسي في محاولة لإعادة الاتزان لما يحدث حولنا، بلهيب الصوت والشعر والصفع. فالتحول الذي يمر به الشاعر منذ العنوان حتى النهاية يجرد إنسانيته من سطحيتها، ليغوص في مكامن الغضب والشر فيه، هو بذيء كطلقة قنّاص لا تتردد أمام دمعة طفل جائع، هو ينمسخ شعريا مكشرا عن أنيابه للانقضاض. الضحية هي الجميع بل حتى جسده نفسه، يقول “ككلب حين يتمسح العالم بي/ لأدفن كفي مرارا في جسمه/ لكني هذه المرة/ منحت أصابعي لأشخاص تخيلتهم الكراسي/ أخبرتهم كيف يسحبون بها/ جثثهم نحو أحلامنا/ وكيف يمكنهم إيجادي/ بطريقة أخرى/ غير النقر على الطاولة”.

16