الشاعر الصغير أولاد أحمد حالة اجتماعية أكثر منها فنية

اغتراب عن الحداثة وشبان يكتبون قصائد مترهلة في تونس.
الخميس 2023/06/22
الشعراء التونسيون لم يتحولوا إلى تجارب تُقرأ (لوحة للفنان محمد بن مفتاح)

تبدو حالة الشعر في تونس مقارنة بالآداب الأخرى كالقصة والرواية وحتى الكتابة للمسرح متأخرة وتواجه عراقيل عديدة تقف حاجزا أمام تطورها. ولعل أبرز هذه العراقيل تكمن في الشعراء أنفسهم، إذ لم يذهبوا بعيدا إلى التجديد وجرفتهم الأيديولوجيا والتظاهرات والصراعات السطحية.

يتألق الشعر في تونس عبر الرواية وفنون القص والغناء والمسرح والسينما والعمارة، وكل ضروب التعبير التي تشمل حتى الشتائم في الشوارع. ولكنه يكاد يغيب عن القصيدة المكتوبة والمطبوعة والمنشورة لغرض الشعر.

هذا الحكم يبدو قاسيا بل صاعقا لدى غير التونسيين من عرب المشرق الذين يظنون أن بلد أبي القاسم الشابي لا يمكن له إلا أن يفرخ المئات من الشعراء من بعده على الأقل، أي منذ أن توفي على أرضها صاحب قصيدة “إرادة الحياة” في منتصف ثلاثينات القرن الماضي.

تجارب منفردة

الحداثة الشعرية تطل برأسها خجلى في بلد ظل يفخر بالحداثة بين أقرانه العرب زهاء ما يزيد عن نصف قرن

المشهد الثقافي الظاهر في تونس قد يفنّد هذا الحكم جملة وتفصيلا، ولا يصدق أن بلادا تزدهر فيها الفنون على مختلف أجناسها، وتنشط فيها المجالس الأدبية والحوارات الفكرية والترجمات المنفتحة على ثقافات العالم، يمكن لها أن تعاني شحا شعريا يصل إلى درجة الجفاف كما يؤكد نقاد ومتابعون.

كل أسباب ازدهار الشعر موجودة ومتوفرة على قارعة الطريق، بما في ذلك الأزمات وحالات العزلة والاغتراب الفردي والجماعي، فلماذا إذن لا يكاد الزائر المتجول بين المكتبات يعثر على بعض الكتيبات لبعض الأسماء، فلا يجد فيها غير بعض الصفحات، إن لم نقل بعض السطور والكلمات، والباقي ينضح لغوا وحشوا وثيمات مكررة وتخلو من لحظات الابتكار والإدهاش؟

الحداثة الشعرية تطل برأسها خجلى في بلد ظل يفخر بالحداثة بين أقرانه العرب زهاء ما يزيد عن نصف قرن.

والغريب أن الأجناس الفنية والأدبية المجاورة للشعر تشهد انتعاشا بلغ حد الطفرة، وبقيت الصيغة القصائدية للشعر بائسة وفقيرة إلا “من رحم ربي” كما يقال.

أما الأغرب من ذلك فإن دور الثقافة المنتشرة في البلاد التونسية، تعج أمسيات ونوادي وملتقيات شعرية قد يخف فيها الحضور، لكنه لا ينقطع، وظل للشعر متحمسوه ومريدوه رغم غياب المنابر الإعلامية المتخصصة والحواضن النقدية الراعية كما هو الحال في بعض مدن بلاد الشام والعراق والخليج.

الشعر المكتوب بالعامية التونسية بلغ مراحل متقدمة وولج مساحات وسار في أغوار تستحق التوقف عندها والكتابة عنها كتجارب رائدة

المشكلة بالتأكيد ليست مشكلة نشر، فالصعوبات نفسها في أقطار عربية أخرى، لا بل إن وزارة الثقافة في تونس تقتني بضعة عشرات من نسخ الكتاب كمساعدة شبه رمزية للكاتب والناشر، الأمر الذي ينعدم في بلدان أخرى.

ما تقدم من حديث، لا ينفي طبعا، ظهور شعراء تونسيين أثبتوا حضورهم الإعلامي وعلى مدرجات الجامعة، باعتبار أن عددا منهم كان يتولى تدريس مادتي الأدب والنقد كالمنصف الوهايبي ومحمد الغزي، وقبلهما الراحل جعفر ماجد، وغيرهم ممن ثبتت أسماؤهم وتجاربهم.

وباستثناء جيل أواخر الثمانينات والتسعينات من الذين طغت على كتاباتهم الخلفية الأيديولوجية رغم ما يحسب لهم من لمعة فنية ضاعت في زحام الالتزام السياسي، لم يسجل المشهد الشعري في تونس بعد هؤلاء أسماء وازنة بقدر ما حفظ نصوصا يمكن للمرء التوقف عندها منفردة خارج القطيع.

ضرورة التجديد

المشهد الشعري في تونس لم يسجل بعد الرواد أسماء وازنة بقدر ما حفظ نصوصا يمكن التوقف عندها منفردة

تكثر في تونس المنتديات الشعرية التي بدأ بالتأسيس الفعلي لها الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد، إلا أن الأخير مضى متفردا كحالة اجتماعية أكثر منها فنية، رغم ما ميز مدونته من التماعات دعمها بقراءاته لإنتاج محمد الماغوط وعبدالوهاب البياتي ونزيه أبوعفش في سوريا. واستمرت بعض الأسماء تنسج على منواله دون جدوى، باعتباره ظاهرة اجتماعية وتجربة فردية لا يمكن تقليدها.

المشكلة في كتابة الشعر بتونس، أن أفرادا يصنعون ظواهر فسرعان ما يلتف حولها نفر من الكتبة يحاولون استنساخها دون طعم ولا رائحة، يرحل صاحب تلك التجربة غير المكتملة فيتوه من بعده مريدوه باحثين عن اسم جديد يتحلقون حوله. وهكذا دواليك، ضمن مشهد يكثر فيه كتبة الشعر ويقل فيه الشعر والشعراء.

المعضلة الأخرى أن قصيدة النثر في تونس ظلت تجربة ينظر لها بعين الريبة إلى حد الآن، في الوقت الذي بلغت فيه أشدها في سوريا ولبنان.

وربما يعود الأمر إلى تقديس بعضهم لشعر محمود درويش الذي ظل يصر على كتابة التفعيلة، وورط الكثيرين في هذا الاتجاه حتى باتت قصائدهم تولد بائسة مترهلة ومتخلفة عن المنجز الشعري السائد في المشرق العربي.

أمر موحش أن تجد في بلد منفتح مثل تونس، شعراء مازالوا يقدسون التفعيلة، ويكتبون عن قضايا لا تحركهم في دواخلهم

هذا التمسك التونسي بتجارب شعرية واحدة ومعينة إلى درجة الارتهان أضعف لديهم حس المغامرة والابتكار، بالإضافة إلى عدم الاطلاع الكافي على تجارب حداثية رائدة في سوريا ولبنان، ما جعل منهم كلاسيكيين واتباعيين إلى درجة الضحالة، على الرغم من اطلاع بعضهم على الشعر الفرنسي.

أما الشعر المكتوب بالعامية التونسية، فبلغ مراحل متقدمة وولج مساحات وسار في أغوار تستحق التوقف عندها والكتابة عنها كتجارب رائدة.

يعود الفضل في ذلك إلى “رب ضارة نافعة” وهي عدم التمسك بصرامة الفصحى التي لم يتقن البعض دهاليزها أصلا، بالإضافة إلى المفهوم المتكلس للشعر عند هؤلاء، عداك عن سلاسة العامية وأصالتها وانفتاحها، والتي ينظر إليها هؤلاء بعقدة استعلاء.

ومن ناحية أخرى قليلة هي التظاهرات الجادة والمجددة على غرار مهرجان الشعر العالمي بسيدي بوسعيد، والتي قد تساهم في إعادة تصحيح مفهوم الشعر لدى غالبية من معاقريه الكلاسيكيين التائهين الباحثين عن أبوة غائبة.

أمر موحش أن تجد في بلد منفتح مثل تونس، شعراء مازالوا يقدسون التفعيلة، ويكتبون عن قضايا لا تحركهم في دواخلهم وبلغة غريبة عنهم.

12