الشاعرة نجاة الزباير لـ"العرب": مراكش مدينة تقف وسط أشعاري بلا اسم

المشهد الثقافي المغربي يعرف تحولات عميقة يقودها باحثون ومبدعون.
الاثنين 2023/04/10
قصائدي رسائل إلى كل العشاق

الكتابة تبدأ عادة من تجارب وجدانية تتصادم مع العالم، هكذا يبدأ أغلب الشعراء والأدباء مسيراتهم قبل أن تتحول مع التراكم والتجربة إلى عوالم أكثر دقة ووعيا ونضجا. في الحديث عن تجربة الكتابة وعلاقتها بالبدايات والمكان كان لـ"العرب" هذا الحوار مع الشاعرة المغربية نجاة الزباير.

نشأت الشاعرة والناقدة المغربية نجاة الزباير في أسرة تقدس العلم، فوالدها عالم ملم بكل العلوم، وقد درست على يديه عندما كانت تلميذة في المرحلة الابتدائية، إذ غرس في أوصالها حب الكتاب، فقد كانت في منزلهم مكتبة ضخمة، تذكر أنها لم تتجاوز العاشرة من عمرها عندما كانت تقف مبهورة أمام كل هذه الرفوف، وكانت تجلس بالساعات تقرأ قصصا أسطورية غذت خيالها الفتي، ومع مرور الزمن البيولوجي أصبحت مدمنة على القراءة.

كانت كل الكتب تشكل حافزا لها للإبداع، إذ تدفق نهرها مرورا بماجدولين للمنفلوطي التي أبكتها ليالي، إلى كتاب النبي لجبران، مرورا بالبؤساء لفيكتور هوجو. وكأن الألم يضع مداد لبناته في دمها كي تقتفي أثر غاوين الكتابة. وكانت كتابات غادة السمان وألفريد دي موسيه وآخرين نقطة عبور كي تغوص بعد ذلك في تجربة الكتابة، وإن كان السرد يصطادها كلما مشت وحيدة في غابات المعنى.

الكتابة رسالة

حظيت كتابات نجاة الزباير بالاهتمام في الوسط الثقافي منذ ظهورها في اللقاءات الأدبية ومشاركاتها على صفحات الجرائد والمجلات، واستمر هذا الاحتفاء حتى استطاعت أن تنحت اسمها بإزميل الاختلاف في الوطن العربي.

بوكس

تبدأ الشاعرة حديثها لـ”العرب” حول علاقتها بالقصيدة، تقول “هل تسمح لي يا سيدي أن أسافر بك قليلا إلى عوالم لم أكن أعرف يوما أنني سأحط رحالي بين كثبانها ورمالها، لأبني خيمة أطارد فيها فراشات القصيد؟ ما أجمل رائحة الذكريات المنبعثة من الذي كان، فتتدفأ الروح بذلك القبس الجميل الغائر بين ثنايا الوجدان. هي البدايات تغمز الروح، فتنساب المعاني لتعيدني إلى أرض وطأتُها لأول مرة كنت فيها كأني أمشي فوق السحاب. هل تعلم يا سيدي معنى ذلك؟ معناه؛ أن حياة من نوع آخر تسللت إلي فجعلتني أطير بجناحين من حبر كي أنسكب فوق الورق، حرفا وجوديا لا يعرف أسراره غير من عانق هذا الجمال”.

وتضيف “عثرتُ ذات حلم بهي على باب القصيدة عندما كنت لا أزال صبية تلعب الريح بضفائري المتناثرة في كل الاتجاهات، وأنا في الصفوف الدراسية الأولى. لم أكن أعرف معنى أن أكتب شعرا، ولا كوني سأسير في هذا الدرب المحفوف بالماء والجمر، كان أحد التلاميذ قد كتب قصيدة عن فتاة كانت صديقتي، فنشرت بعض القلق في الأرجاء ـ هذا الطالب الذي أصبح شاعرا ومترجما كبيرا الآن ـ فلما شكت لي ما جاء بين الحروف، كتبتُ ما يسمى شعرا، فدق جرس ميلادي الجديد”.

وتلفت إلى أن أول قصيدة تعترف بها مما كتبته في بداياتها كتبتها وشاركت بها في برنامج إذاعي، ولقيت صدى كبيرا وأشاد بها مقدم البرنامج آنذاك عن القضية الفلسطينية، وكانت بمثابة الضوء الأخضر الذي منحها تأشيرة المرور في شارع الشعر الكبير. هكذا سحرتها القصيدة ورمتها بنبالها حتى أصبح القلب عبدا لها، كما تقول.

ولما سألناها عن لحظاتها الإبداعية حين يسكنها ألم الكتابة، تجيبنا الزباير “الكتابة ردم لهذا الخواء المريع الذي يجتاح أرواحنا، وهي خيط الجمال الذي يرتق عالم القبح، فحين تتساقط أوراق الشتاء، تقف أمام بابي سيدة متلفعة بأثواب نفسي، تلح بطرقاتها كي أفتح لها نافذة روحي لتنسج من شجني حروفا تقطر لوعة”.

وتتابع “هكذا تعانق صحوي عندما يلفني اليباب ويمزقني عواء الشوارع، فيغدو هذا الحب العصي على البوح جنونا يبحر بين المفردات كي أصنع زورقا من ورق، لتبدأ الطيور المهاجرة رحلتها في وريد أزمنتي. وكلما راوغت صدودها، رفعت أنخاب موسيقاها بين أنامل حيرتي، كي أتناثر زهرة جلنار”.

تواصل الشاعرة قائلة “دعني أخبرك يا سيدي، بأن الوجع الإنساني هو ذلك النحيب الخفي الذي يقد قميصه من قُبُل، فترى أبطال نصوصي يتحركون بين قلاع المجاز بخوذات الحرب، ولكثرة صوت القنابل في شعري، كثيرا ما سُئلت عن هذا الدم الذي لوث حروفي، فكلما اتكأتُ على جدار الوطن الكبير أراه ينزف، لتحاصر زوابع ورياح آهاتي، لكن يد القارئ التي تمتد من بين السطور تنقذني مني، كي تستريح أوجاعي في أفقه البعيد”.

كما تكتظ قصائدها، كما تقول، برسائل لكل العشاق، إذ كثيرا ما تخيلت ملامح قارئ ما، فتقول “تُراه ينتظر مواساتي؟ فأجري بين كل دروب الهوى لعله يجد بعضا من روحه في كتاباتي”.

قصائد الشاعرة نلمس فيها جمال ورقي الحرف، ونضج المرأة حينا، وكونية الإنسان حينا آخر، نسألها من هي نجاة الزباير من بين كل هؤلاء؟ وكيف تمكنت من تحقيق هذه المعادلة الصعبة؟  لتجيبنا “جميل أن نجمع يا سيدي أمواج البحر في كف واحدة، تلك هي ‘أنا’ إذن؛ المتعددة في كف الاختلاف”.

وتضيف “لكن هل تسمح لي بأن أقول بأني سيدة الوهم؟ أتوارى خلف ستائره كي أرى ما لا يُرى، وأنني تلك المتدثرة بأوراق القصيدة الإنسانية التي تطل على العالم، فمتى أشرقت من شرفات دمي أراني أركض في ساحاتها، أجمع من رذاذها عطرا لحضوري، وكلما عانقتُ جسدها نسيتُني وكأني أولد ولادة ثانية”.

وتتابع “إنه جنون يستوطن دواة العمر كي يكتبني حبرها فوق بياض عوالمها أغنية لا أرقص إلا على إيقاعها من خلال رؤية عميقة للذات وعلاقتها مع الآخر. لأول مرة أعرف بأن هناك معادلة صعبة وُفقت في الإمساك بأطرافها، إنني أكتب فقط حين يستفز يراعي موضوع ما، فأراني أحتطب من الذات استعارات تحاول الإمساك بالمحال، فتتدفق الحروف سلسلة من نهر وجداني كي تعانق القارئ بإحساس صادق”.

المكان والأدب

كتب

المغرب بلد نشط ثقافيا، عنه تقول الشاعرة “صعب أن نتحدث عن الحركة الأدبية في سطور عجلى تلتقط أنفاسها بين الفواصل. لكن اسمح لي يا سيدي أن أخبرك بأن المشهد الثقافي بالمغرب قد عرف تحولا عميقا نظرا إلى تنوع وتميز إنتاجاته، بفضل الباحثين والشعراء والنقاد، دون أن ننسى الروائيين والمفكرين وكل العارفين بأسرار اللغة التي تعتبر ‘مسكن الوجود’ كما قال هيدجر”.

وتضيف “لعل أهم ما يميز الحركة الثقافية الراهنة هو انسلاخها عن الاستلاب الفكري، الذي أعني به ‘الانسلاخ عن الذات والهوية الثقافية الأصلية والانغماس في ثقافة الآخر’، مما يعني التبعية لهذا الآخر كثقافة وكحضارة”.

وتلفت الزباير إلى أن أهم الجوائز العربية في كل المجالات يحظى بها مثقفون مغاربة كان لهم السبق في رسم معالم مغرب ثقافي جديد، ساهم بشكل كبير في بناء الإنسان، دون فقد الصلة بالتراث رغم التأثر بالنموذج الغربي. هذا الانفتاح الذي أبرز وجه الحضارة المغربية من خلال تناول قضايا ونظريات تنتصر للجمال الكتابي.

نسأل الشاعرة إن كان للمكان أثر في قصائدها، لتجيبنا “دعني أهمس في جوف هذا البياض، لأعلن عن غرامي بمدينة ترسمني قصيدة بملامح طفولية. إنها مراكش، هذه المدينة التي تقف وسط أشعاري بلا اسم، تبعثرني في كل اتجاهاتها، فهي حمامة تطل من نافذة الروح كلما أخذت اليراع لأعزف مقطوعتي الشريدة، هي التي يجتمع في كفيها قوس قزح، وفي خاصرتها تتكلم القصيدة أفراحها وآلامها”.

وتضيف “مراكش هي الحب الذي به أتغنى وأنا أعلق لافتاته فوق أرصفة دواويني كلها وهي ذلك الشعاع المسافر في مكاشفاتها، المستقر في أنفاسي شجرا وماء، حيث تستقبل مئذنتها كل الغرباء بأريج ممزوج بهديل كل رموزها التاريخية، وهي الخمرة المسكوبة في كأس سكوني، أو ليست الحبر السري الذي كتب اسمي بالمداد الذي يعرفه القارئ العربي”.

المشهد الثقافي بالمغرب يعرف تحولا عميقا نظرا إلى تنوع وتميز إنتاجاته، بفضل الباحثين والشعراء والنقاد والروائيين

في حوار صحافي سابق لها قالت الزباير “أنا ضد ثنائيات أدب تعبث بذاكرة المتلقي، فإما أن يكون النص متميزا أو لا يكون، فما معنى أدب نسائي وآخر رجالي، فكل نص يحمل ثقافة صاحبه”. تسألها “العرب” إن كان مازال رأيها نفسه، تقول “نعم، لا شيء يتغير مع ثوابت نؤمن بها، فلا معنى لهذه المصطلحات التي تشوش على القارئ. فهل عندما يكتب كاتب ما عن خبايا المرأة نقول إن أدبه نسائي بامتياز؟ ما أكثر الأدباء الذين سبروا غورها، أي المرأة، مثل الشاعر نزار قباني والأديب يوسف إدريس وغيرهما، ويرجع رفض المصطلح في مجتمعاتنا الثقافية إلى كونه ولد من رحم التمييز، وكأن ما يكتبه الرجل أرفع مما تكتبه المرأة”.

وتضيف “لماذا نجزئ الإبداع بدل البحث عن الخصوصيات الدقيقة التي تميز كتابة كلا الطرفين؟ تقول لطيفة الزيات بعد صدور مجموعتها ‘الشيخوخة وقصص أخرى’ سنة 1986 ‘أدركت أن رجلا ما لا يستطيع أن يكتب مثل هذا الكتاب، وأصبحت على استعداد للإقرار بأني أكتب أدبا عن ذلك الذي يكتبه الرجل، ويتشابه معه في ذات الحين من حيث أنه يندرج في التراث الأدبي يغنيه ويثريه'”.

12