الشاعرة الجزائرية خيرة مباركي لـ"العرب": أكبر عائق للإنسان هو الجغرافيا

العلاقة بين الرسم والكتابة علاقة إلهام وتأثير وتأثر، خاصة إذا جمع المبدع بين العالمين، إذ يمنحه ذلك ثراء كبيرا سواء في الرسم أو الكتابة. والشاعرة الجزائرية – التونسية خيرة مباركي أجادت جمع العالمين وفق تصورها الخاص. "العرب" كان لها هذا الحوار معها حول حضورها الأدبي والفني.
خيرة مباركي ليست فقط شاعرة وكاتبة وناقدة لها مكانتها في الساحة الأدبية الجزائرية، بل هي أيضا فنانة ذواقة تمتلك رؤى ثاقبة في الفن التشكيلي والألوان ولها أعمال مميزة فيه تنبض بالحب والحياة.
في هذا الحوار نتعرف على التداخل بين الرسم والشعر عند مباركي، ونطل على عوالم الشاعرة والفنانة خيرة الإبداعية لنتعرف على الرحلات الأدبية والفنية التي تترك أثرا عميقا في نفوس المتلقي.
الكتابة والواقع
خيرة مباركي تونسية – جزائرية، من أب جزائري وأم تونسية. هي أستاذة في الأدب العربي، حاصلة على الإجازة في اللغة والآداب العربية، وماجستير في الأدب، كما أنها باحثة دكتوراه. تقول لـ”العرب” عن بداياتها مع الشعر “كانت لدي موهبة، مندفعة، يجسد الشاعر من خلالها أحلامه ويرسم فيها الحياة التي تعشقها روحه. حلقت مع الشعر دون أن أدرك هذه الذات في ذاتي. ربما كانت ميولا تلقائية في البداية، وأدركت الآن أنها كانت حالة من حالات العشق الفني”.
وتضيف “كنت أكتب الشعر باللغة الإنجليزية في مرحلة دراستي الثانوية، ونفخت فيها مكاشفاتي الصغيرة. لكنها محاولات لم تر النور، ربما لأن تلك الكتابات كانت لي وحدي، تعبر عن دواخلي في لحظة خاصة. فلم أر بدا من طرحها على الملأ. ثم بعد ذلك بدأت أهتم بنشر نصوصي التي كانت تلاقي إعجابا واهتماما من الكثيرين، وصولا إلى مرحلة جديدة أدركت فيها جملة المبادئ الفنية والاختيارات الفنية للتجريب والإبداع عبر التوجه الأكاديمي والنقدي”.
وترى مباركي أن “قصيدة النثر” شكل شعري مثله مثل بقية الأشكال الأخرى، له مقوماته الفنية المميزة التي مثلت ثورة في اللغة على كل المستويات؛ الصياغة والتركيب والإيقاع. وهي وليدة حركة تجريبية متواصلة، في تاريخ الأدب العربي قديمه وحديثه، نظمه ونثره، ولاقت “قصيدة النثر” اهتمام العديد من الشعراء، بل إن أغلبهم انحازوا إليها، ومرد ذلك طبيعة اللحظة الراهنة وما تميزت به من تطور في الذهنية العربية والإنسانية عامة. وتعني بذلك جملة المتغيرات التي طرأت على الواقع وعلى إنتاج المعرفة الإنسانية.
وتضيف “تطورات وقطيعات إبيستيمولوجية انهارت فيها النظريات القديمة، وانهار معها إيمان الإنسان بها. وهذا أنتج تفككا كبيرا وخاصة عند الشاعر باعتباره أكثر وعيا بالذات وأشد رغبة في اكتشاف العالم من حوله حين تزاحمه الهواجس. هو وعي ضدي كثير التساؤل، أنتج روحا مختلفة في التعامل مع الإبداع. فلم تعد تستهوي الشاعر الإيقاعات المدوية والصاخبة بل الصور المحلقة التي تكنه المحظور منه، وتحلق بأكثر حرية، مؤمن بأن الشعر لم يعد مجرد شكل لحمل مضامين أيديولوجية سلبت روحه، وإنما هو مغامرة متجددة لاكتشاف شعرية الأشياء”.
وحول سؤال عن مكانة المرأة العربية عموما والتونسية خصوصا في نيل حقوقها تقول “تختلف مكانة المرأة العربية من قطر عربي إلى آخر. وعن وضعية المرأة في تونس أقول إنها وصلت إلى مراتب عالية في كل مجالات الحياة بما في ذلك المجالان الثقافي والبحث العلمي. وهذا يعود إلى ما تتمتع به من مكاسب منحتها الثقة في أن تبدع وتتميز”.
وتتابع “أما في أقطار أخرى فأكتفي بالقول إنها يكفي أن تواجه الواقع وتنتصر على الموجود لتكون وتفتك مكاسبها بيدها، وهذا ما نلاحظه في أغلب الأقطار العربية تقريبا، فأن نجد امرأة واحدة أثبتت ذاتها واستطاعت أن توجد لنفسها مكانا في مجتمع الرجال، فهذا يعني أن إرادتها بيدها. لن أقول بأنه ينقصها الكثير أو مكتفية بما حققته من مكاسب وما وصلت إليه من أهداف، بل عليها أن تحافظ على ذلك وأن تكون مكتفية بذاتها وبإبداعها وعلمها”.
وتواصل مباركي حديثها لـ”العرب” قائلة “الواقع المعيش والمعاناة اليومية للمواطن العربي حاضران دائما بالحضور والغياب، إما بالتعبير المباشر، وهذا طبعا عبر طاقات الترميز في العمل الفني، وإما بتغييبه قسرا لننشئ عالما مغايرا مشرقا على أنقاض هذا العالم، مليئا بالحب والجمال، ومن الطبيعي أن يؤثر ذلك على كتاباتي، لأن الإنسان كائن حساس بطبعه، يتأثر بما يحيط به. ستجد ذلك الواقع بكل أصنافه في العمل الفني حتى لو لم تره في لحظة التقبل الأولى، وربما يكون الواقع حاضرا كما ذكرت في أعمالي، لكن هذا الحضور نتيجة لتفاعل شعوري داخلي، وحركة وجدانية صاخبة يمكن أن تحدد الفكرة الإبداعية وألوانها وحروفها ومعجمها. لذلك فالعملية بأكملها لحظة مخاض ووهج شعري أو تشكيلي تأتلق في لحظة بين الوعي واللاوعي“.
وحول كتاباتها المليئة بالحزن والألم والحب والرحيل والغربة والسفر والعشق والوطن، وعن هذا الخليط تقول الكاتبة والشاعرة “نحن نعيش هذا الخليط فعلا، والفنان كائن حساس بطبعه كما أشرت، هذا فضلا عن أن العمل الإبداعي ملتقى المشاعر والأحاسيس. أجدني أنجذب إلى مثل هذه المعاني، لأني أتلقفها من ذاتي وأعماقي ومن غيري، فأعزفها لحنا تتفجر تعابيره من أقاصي الوجدان، تطرب له نفسي مع نفوس شبيهة، ولو حزنا، لأنه ينقل بطريقة مرآوية ما يحدث ويتغير، والمكان ليس مجرد عامل لتحريك شاعرية الشاعر والفنان، بل هو خطاب ولغة يحمل علامات سيميائية وجغرافية محددة وغير محددة لمنظومة دلالية مجازية وشاعرية وبلاغية وكذلك فلسفية”.
وتشدد على أن للمكان وجودا عميقا في كتاباتها، لأنه جزء من الفضاء الشاسع الذي يستمده المبدع أو المتلقي على حد السواء من التجريد الذهني. فالوطن أو المدينة أو البحر، قد تكون عناصر مكانية في الخطاب الشعري أو حتى في اللوحة الفنية، لكنها في الحقيقة عوالم مجازية تقدم تصورات خاصة. هي، كما يقول ميشيل بوتور، خطاب ولغة ونص مليء بالعلامات.
وتضيف “أحب الأمكنة إلى نفسي البحر، في كل حالاته. أعشق البحر ولكنه بالنسبة إلي ذلك الفاعل السيميائي الذي يتحكم في كل عوالمي الممكنة، ومن الطبيعي أن تكون هناك عراقيل وعوائق تعيق الوصول إلى أهدافنا، لكن أكبر عائق للإنسان هو الجغرافيا. وخاصة حين يكون العمل والعائلة في مكان، والحركة العلمية والثقافية والدراسة في مكان آخر، يصبح الأمر صعبا على المبدع أن يجد حظوظه”.
الفنان صوت العالم
تقول خيرة مباركي عن بدايتها في الرسم “لما أحسست أن أصابعي تواقة لقلم الرصاص، وأن الطبيعة تراودني لأخط نغماتها على أوراقي، عشقت الألوان حين داعبت أعماقي وبصري فأطلقت لها العنان لأصل إلى المسابقات التي فزت فيها مرات كثيرة في تونس، على مستوى وطني. وهذا من شأنه أن يكون منطلقا لزرع الثقة في نفسي لأخوض غمار المعارض رغم صغر سني. وكانت الجامعة فضاء رحبا لأمارس هوايتي وأنمي طموحاتي. عندها قررت أن أصنع نفسي بنفسي، ولكن الضغوط السياسية والاجتماعية جعلتني أبتعد لفترة طويلة وأنغمس في الحياة العملية كأستاذة في الأدب العربي”.
وتتابع “أعتمد على كل المدارس الفنية ولا أستلهم من واحدة بعينها، تتعبني وتشتتني القيود، لذلك تجد صدى العديد من المدارس في أعمالي. وأعترف بأني ميالة إلى المدرسة الرومنسية والرمزية، ولكن أحاول أن أتنصل من قيودهما بأن أجمع أحيانا أكثر من مدرسة، وأحيانا أطعم السريالية بالرومنسية… وهكذا”.
وحول سؤال عن نشاطها التشكيلي والنقدي تقول “أقمت معارض عديدة منها ما كان فرديا ومنها ما كان مشتركا وآخرها مشاركتي في معرض عالمي بعنوان ‘ألوان حالمة’ تحت إشراف الفنان التشكيلي العالمي الدكتور خالد نصار. ومنه انتقلت إلى خوض تجربة وثيقة الصلة بين الفن التشكيلي والنقد لتكون مشاركتي في النقد التشكيلي في إطار إدراجي ضمن لجنة النقد في الموسوعة العالمية: موسوعة الماسة في الخط العربي والفن التشكيلي، التي ستترجم إلى الإسبانية والإنجليزية والفرنسية تحت إشراف الباحث الناقد الدكتور محمود فتحي و’فنانون بلا حدود’، إضافة إلى مشاركتي في المهرجان الدولي للفيلم العربي بمدينة قابس ضمن ندوة حول السينما العربية كناقدة سينمائية، وهي تجربة ليست بعيدة عن التجارب النقدية الأخرى”.
وتضيف “أحاول دائما البحث عن الجديد وابتكار وسائل وطرائق مختلفة، وذلك عبر رحلة تجريب مستمرة لا تنقطع عنها الحركة والرحيل بين آفاق الإبداع والابتداع، وخاصة في الشعر. أنا أكتب قصيدة النثر، وهي من أكثر الأشكال حساسية، لا تعيد نفسها وإنما تنشأ وتترعرع من المدهش واللامتوقع. وتلك شعريتها. كذلك الشأن في النقد، وذلك من خلال البحث عن مداخل فنية أو دلالية مختلفة تمكن من إيجاد الإمتاع إلى جانب الإقناع”.
وحول سؤال عن دور الناقد في تطوير الفن والمشهد الثقافي تقول مباركي “للناقد دور كبير في تطوير المشهد الثقافي، هذا إذا فهمنا المعنى الحقيقي للنقد والناقد. النقد قراءة عقلانية للنص، تكسبه مجمل قيمه الفنية وإشاراته القريبة أو البعيدة باعتبارها طاقة لتوليد خرائط المعنى، تستدعيه غائبا وتسائله حاضرا وبين الحضور والغياب يخترق أعماقه وينصت لأصواته. على هذا الأساس يبقى النص المبدَع فعلا لا يزال بصدد التشكل يكتمل بالقراءة فينشأ من الموجود اللغوي وأنساق اللغة الجمالية والتعبيرية معنى ناشئا بصدد التغير مع كل قراءة. إنه سلطة معنوية على الشاعر والمبدع في كل المجالات، وهذا مأتاه التعلم أساسا، لأن كل قراءة هي فرصة خلق إبداعي وانفتاح على ممكن جديد في النص والرؤية”.
وتبيّن أن الناقد قارئ من درجة عالية تختلف عن القارئ العادي، يعتلي أرفع درجات القراءة وأكثرها تعقلا ودربة. هنا يمكن أن نوجد علاقة بين الإبداع والنقد. فلئن كان الإبداع “خلقا واختراعا” فالنقد سيكون “تمييزا وتثمينا وتقييما”. هنا يكون تطوير الفن ويوكل للناقد دور التنظير والبحث عن الجديد في المنجز المتوفر، يعني الحفر عن جماليات النص والتأسيس لجماليات جديدة من عملية التقييم، وإذا تجاوز هذه المهمة ليكون سيفا مسلطا على الرقاب فهذا ليس نقدا بل هو انتقاد. لأن البعض يحول العمل النقدي إلى حالة ذاتية مستقلة عن أبعاده الفنية والعلمية الموضوعية.
وعن الإلهام الشعري والفني أو العكس تجيب “صحيح يمكن أن يلهمني الشعر لتصور لوحة فنية بألوان معينة وخطوط مميزة، تجعلني أتصور النص المكتوب لوحة فنية والعكس صحيح، يمكن أن تستحيل اللوحة الفنية بما هي نص تعبيري مرئي قصيدة ذات إيقاع فني مختلف، والدليل على ذلك عناوين لوحاتي بمثابة نصوص شعرية قصيرة، توحي ولا تصرح فتزيد دهشة المتلقي وقلقه، فيبحث حينئذ عن المضمر من المعنى ويسعى إلى أن يتمثله في ذهنه”.
وتختم خيرة مباركي حديثها مع “العرب” قائلة “من الطبيعي أن هناك دائما رسالة نسعى إلى إيصالها من خلال أعمالنا الفنية، ونحن نعلم أن الفنان صوت العالم وضميره الحي وقلبه النابض بالجمال، فمن يبدع ويتمخض لحظة الخلق الفني تساوره لحظة التلقي وما يمكن أن يؤثر في المتقبل. فعمل الفنان أكثر من مجرد تصوير أحاسيسه ومشاعره ورؤيته للعالم. هو ينقل تلك الأحاسيس والرؤى فتغدو كونية لا تقتصر على فرد في زمان ومكان معينين. وأكثر من ذلك يمكن أن تمكن من استكشاف المفاهيم المجردة وتعزز رؤى ناشئة جديدة تحفز على إنتاج وعي جديد بالوجود في شتى ميادينه النفسية والعاطفية والاجتماعية، وكذلك السياسية والأيديولوجية”.