"السيرة الهُلامية".. مُحاكاة ساخرة لتراجيديا هاملت

تظل النصوص المسرحية الكلاسيكية مادة خصبة للإبداع والتجريب الفني باختلاف الأزمنة والأمكنة، ووفقا للرؤى المُتجددة التي تُعيد تقديم أعمال قديمة بأسلوب مغاير يُعبِّر عن كاتبها. وضمن هذا الإطار أتت المسرحية المصرية “السيرة الهلامية” المستوحاة من “هاملت” شكسبير لتحوّل المأساة إلى ملهاة كوميدية شدّت انتباه الجمهور.
القاهرة – كانت ولا تزال مسرحية “هاملت” للمسرحي الإنجليزي البارز وليم شكسبير من بين الأعمال الخالدة التي جرى استلهامها في العديد من الأعمال المسرحية الحديثة، ومن تلك الاستلهامات جاءت مسرحية “السيرة الهلامية” التي عُرضت أخيرا على المسرح المكشوف بدار الأوبرا بالقاهرة.
ويأتي العرض المسرحي، الذي كتبه الحسن محمد وأخرجه محمد الصغير، في إطار مبادرة “عودة الروح” التي أطلقتها وزارة الثقافة المصرية مُستهدفة عودة النشاط المسرحي بعد توقف دام لما يقرب من أربعة أشهر تأثرا بجائحة كورونا، ليُعاد تقديم عرض “السيرة الهلامية” مرة أخرى بعد عرضه السابق قبل عامين، وحقّق نجاحا كبيرا، ما دفع إلى التفكير في إعادة تناولها.
ورغم الإمكانات المحدودة التي يُتيحها العرض على المسرح المكشوف مقارنة بقاعات العرض المُغلقة التي سبق وأن قُدِّم عليها، اجتهد صُنّاع العمل في المحافطة على أجواء العمل المسرحي والتغلب على غياب الديكور المسرحي تقريبا باستثناء قطع قليلة مُتحركة، من خلال استغلال الإضاءة في حدود معقولة والاعتماد على الفرقة الموسيقية التي تُقدّم ألحانها وأغنياتها أمام الجمهور وفي عمق المشهد المسرحي.
يستلهم العرض المسرحي “السيرة الهلامية” مسرحية “هاملت” الشهيرة باعتبارها واحدة من الكلاسيكيات المسرحية، إذ تسير الأحداث بشكل مُتقارب مع تراجيديا “هاملت” وتمتلك الشخصيات الصفات ذاتها، وإن اختلفت الأسماء والبيئة التي ينتمون إليها ومقصد الانتقام وبعض الأحداث والتفاصيل الفرعيّة. لكن صُناع العمل لم يهدفوا في عرضهم الحديث إلى محاكاة المأساة بحذافيرها وإنما كان الاستعراض الكوميدي الساخر هو المرام الأول للعمل المسرحي.
وتُقدّم الأحداث الرئيسية في مسرحية “هاملت” مجددا في العرض المسرحي “السيرة الهلامية” بعد نقل مكان الأحداث من الدنمارك إلى أجواء وبيئة مصرية، وتحديدا البيئة التي يعيشها جنوب مصر.
الملهاة الكلاسيكية
عمد العرض إلى إبراز انتماء الشخصيات إلى منطقة صعيد مصر من خلال ملابس الشخصيات ولهجتهم الجنوبية والأناشيد التي يتغنّون بها، وحتى أسمائهم التي جاءت مُناسبة لأسماء أقرب إلى ما يشاع منها في الجنوب المصري كشخصية هرّاس الذي يقوم بدور هاملت في تراجيديا شكسبير، وسنيّة بديلا عن أوفيليا حبيبة هاملت الرقيقة الحالمة في تراجيديا “هاملت”.
وصيغت الكوميديا في العرض المسرحي بشكل جيّد عبر عدد من العناصر، فالمُبالغة في تقديم الشخصيات أتت بشكل أقرب إلى الكرتونية الأساسية لتأكيد طابعها وملمحها الكوميدي ونفي كل بُعد محتمل لهيمنة المأساة.
صُناع العمل لم يهدفوا إلى محاكاة المأساة بحذافيرها، وإنما كان الاستعراض الكوميدي الساخر مرامهم الأول
ومن أجل ذلك جاءت شخصية هرّاس مجسّدة في رجل بدين يرتدي ملابس هزلية، ومُنقسِمة إلى شخصين؛ أحدهما متردّد ومهتزّ، والآخر مدفوع بفكرة الانتقام ومُصرّ عليها، وسنيّة التي قامت مقام أوفيليا حبيبة هاملت الحالمة والتي يتعرف على موتها في لحظات مأساوية، هي في العرض المسرحي مُفجّرة للضحكات. كذلك أم هرّاس التي قدّمها رجلا، وصوّرت في هيئة امرأة ضخمة تُثير تحركاتها وأفعالها الضحكات.
وإمعانا في تأسيس الملمح الكوميدي للعمل المسرحي، كانت السخرية حاضرة في كل حدث مأساوي. ففي موت والد سنيّة تستخدم الموسيقى والحوار لإثارة الضحك، وفي مشاهد المبارزة والقتل الأخرى يتم التأكيد على المغزى الكوميدي في مواجهة الرسوخ المأساوي للتراجيديا الشكسبيرية، فضلا عن التغيير في بعض الأحداث في نص “هاملت” وإضافة تفاصيل جديدة يُمكنها أن تُقدّم المزيد من الكوميديا.
الحائط الرابع
سعى العرض المسرحي إلى تحطيم الحائط àالرابع بين المُتفرجين والممثلين على خشبة المسرح بالحديث مباشرة إلى الجمهور وإدخاله في صميم الحوار المسرحي، مثل مطالبة والد هرّاس الجمهور بمشاركته في الغناء والتصفيق لابنه كي يفهم ما يقوله له من مطلب بالثأر، وغير ذلك من محاولات الإيهام التي جعلت الجمهور مُنجذبا للعرض المسرحي ومُشاركا فيه.
وأضاف العرض بعض التفاصيل القادرة على اجتذاب الجمهور، فجعل سنيّة عاجزة عن القراءة ليتحدّث عن مثالب التعليم الإلكتروني الذي فُرض عقب جائحة كورونا، علاوة على استغلال الموضوعات التي راجت بشكل واسع، ولاسيما عقب أزمة الوباء، على منصات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها “تيك توك”.
ولجأ العرض المسرحي عبر عدة ارتكازات إلى التغريب كما هو معروف عند المسرحي الألماني بريخت، ما سمح للمُشاهد بأن يُنتج أفكاره الخاصة عن العمل ويُفكّر في ما هو شائع ومعتاد، وربما قطع سير الأحداث بتعليقات كوميدية أساسيا في تحقيق التغريب في “السيرة الهلامية”.
وتظهر كل شخصية لتُعبّر عن طبيعة دورها؛ شخصية محورية أو نمطية، كذلك التدخّل للتوضيح والسخرية في آن معا، مثل القول إن ما سيحدث بعد قليل سوف يساعد على تطوير الحدث الدرامي، فضلا عن الاعتماد على الأغاني إما لسرد الحدث وإما لإبداء الرأي فيه.
قدّم صناع العرض المسرحي عملا كوميديا من تراجيديا راسخة بنجاح وتميّز، وهو تحدّ استطاعوا أن يجتازوه بنجاح جعل المشاهدين على درجة عالية من الإقبال والتفاعل مع العرض المسرحي.
وقد يكون ذلك هو الغاية النهائية لصناع العمل وهو مقصد مشروع في كل الأحوال طالما احتفظ بفنيّته. وقد يكون تبويب العمل ضمن إطار كوميدي فرصة لرؤية الواقع المعيش بشكل مُختلف. وربما كان الاستعراض الكوميدي وسيلة فنية أراد العرض المسرحي من خلاله السخرية من البناء الدرامي الأرسطي والتقليدي في المسرح الكلاسيكي على اعتبار أنه غير مناسب لطبيعة العصر.
يمكن ملاحظة ذلك من خلال تأكيد كل شخصية على طبيعتها؛ شخصية محورية، شخصية شريرة، والسخرية من المنحنيات الدرامية الواضحة المؤثرة في الحدث الدرامي، وإثارة النكت حول تأثير التردّد في شخصية هرّاس على إطالة الأحداث الدرامية داخل العمل المسرحي بما يُخالف الإيقاع السريع المُعتاد في الوقت الراهن.