السياسة الخارجية الجزائرية أسَاس العَطَب الإقليمي (2)

الدور الدبلوماسي الجزائري في المنطقة تعدى حالة التدخلات العادية إلى التدخل في شؤون دول الجوار وفرض الوصاية.
الأربعاء 2023/06/21
لا بديل عن خيار التصعيد والتهديد

ظلت الدبلوماسية الجزائرية لعقود و مازالت تفتقر إلى الجانب المهني في اختيار السفراء وتوزيع المهام الدبلوماسية، فمختلف الشخصيات التي تولت مهام دبلوماسية لتمثيل الجزائر هي شخصيات ذات فكر تقليدي ينهل من الفكر البومديني (نسبة إلى هواري بومدين) المتهالك؛ فغالبا ما يتم اختيارها من قدماء المحاربين في الثورة الجزائرية أو الوزراء المقالين على خلفية فضائح مالية أو إدارية أو شخصيات في هرم السلطة مغضوب عليها ومبعدة من العمل السياسي أو في إطار ترضيات حزبية أو بيروقراطية. لكن النقطة الجامعة بين هؤلاء هي أن هذه البروفيلات تنقصها الخبرة والحنكة الدبلوماسية وغير مثقفة ثقافة عصرية ومتشبعة بروح فرنسية غارقة في النمطية وغير مدركة لدورها الدبلوماسي ولرسالتها السياسية، هذا الوضع الذي أثر على الخط التحريري للدبلوماسية الجزائرية وجعلها تفتقد إلى الوضوح والفهم الدقيق لمتطلبات المرحلة، فالملاحظ أنها توجد في حالة من التيه الدبلوماسي بسبب الارتجال والتسرع والخضوع للتجاذبات السياسية والعسكرية التي تتدخل في صياغة المواقف الدبلوماسية للجزائر.

ويحاول النظام الجزائري اليوم إعادة صياغة العقيدة الدبلوماسية الجزائرية بما يتناسب مع خططه التوسعية البومدينية على حساب محيطه الإقليمي بالاستغلال البشع والرديء للقضية الفلسطينية ومحاولة ربطها بنزاع مفتعل الهدف الأساسي من ورائه هو التدخل في الملفات الإقليمية وتقديم الجزائر كعاصمة للوساطات الملغومة التي يبقى هدفها المستتر هو التدخل الجائر في سياسات دول الجوار.

◙ النظام الجزائري يحاول إعادة صياغة العقيدة الدبلوماسية الجزائرية بما يتناسب مع خططه التوسعية البومدينية على حساب محيطه الإقليمي

ظلت دبلوماسية دفتر الشيكات (بالمعنى السلبي) وعمليات شراء الذمم عنوانا بارزا للسياسة الخارجية الجزائرية في إطار سياسة ممنهجة للنظام العسكرتاري هدفها تبديد مقدرات الشعب الجزائري في تمويل حملات تضليل وسياسات تسليح وافتعال معارك سياسية إقليمية بغية تحقيق الأحلام البومدينية بالهيمنة الإقليمية والسيادة الجهوية والسيطرة على مقدرات الشعوب المغاربية والاستحواذ على ثروات دولها؛ أهم هذه المعارك الدبلوماسية والعسكرية وأطولها وأكثرها إضرارا بمستقبل شعوب المنطقة الصراع المفتعل مع المملكة المغربية ومعاكسة طموحاتها في استكمال وحدتها الترابية والإضرار بأمنها القومي بالعمل على مشروع تقسيمها وشن حرب مجنونة ضد جيشها طوال عقدي السبعينات و الثمانينات، وهي المرحلة التي صرفت فيها الجزائر مئات المليارات من الدولارات من أجل تسليح وتدريب ميليشيات إرهابية تستهدف المصالح العليا للشعب المغربي رغم تغليف هذه السياسة بشعارات دعم حركات التحرر والاستقلال والركمجة على القضية الفلسطينية وقضايا الشعوب المستضعفة، فقد ظلت الدبلوماسية الجزائرية رهينة العلاقات الشخصية لهواري بومدين ووزير خارجيته عبدالعزيز بوتفليقة مع زعماء وقادة العالم الثالث في إطار تجمع دول عدم الانحياز والكتلة الشرقية حيث سرعان ما انطفأت شعلة الدبلوماسية الجزائرية مع موت الأول وإبعاد الثاني من مربع الحكم بعد تولي الشاذلي بن جديد رئاسة الجزائر.

في بداية الثمانينات ومع انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الأفريقية ونجاح النظام الجزائري وحلفائه في استحواذ جمهورية الوهم بتندوف على العضوية الكاملة في المنظمة القارية عادت مرة أخرى الدبلوماسية الجزائرية إلى سلوكها المعتاد في تبديد مداخيل الشعب الجزائري لترسيخ وجود الميليشيا الانفصالية في أجهزة المنظمة القارية والعمل على فتح تمثيليات لها في مختلف عواصم القارة الأفريقية عن طريق شراء الذمم ودفع الرشاوى للأنظمة الأفريقية لانتزاع اعترافها بالميليشيا الانفصالية ودولتها المزعومة، سرعان ما تهاوى هذا النهج مع دخول الجزائر في صراع داخلي حول السلطة بين أجنحة الحكم وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في حرب الصحراء والتغيرات الجيوسياسية الكبرى التي عرفها العالم نتيجة انهيار المنظومة الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفياتي واقتناع المنظومة الدولية باستحالة استحداث كيان سياسي جديد في جنوب المغرب وانهيار دفوعات الطرح الانفصالي السريالية مع واقعية ومتانة منهجية الدبلوماسية المغربية في بداية القرن الواحد والعشرين التي انتهت بعزلة دولية للنظام الجزائري ورفض دولي واسع النطاق لصنيعته في تندوف.

في بداية العقد الثاني من القرن الحالي ومع التغيرات المهمة التي فرضها المغرب على قانون اللعبة الإقليمية بطرحه لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية باعتباره الحل الأساسي والواقعي والسلمي والسياسي والتفاوضي للنزاع المحتمل مع فشل ورفض المبادرات التقسيمية التي روجتها الجزائر وعملاؤها في مجلس الأمن، اضطر الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة ومعه جنرالات النظام إلى إجراء تغييرات واسعة في الأجهزة الدبلوماسية الجزائرية حيث تم تعيين رجل التوافقات الدبلوماسية في عهد بوتفليقة مراد مدلسي في منصب وزير الخارجية، والذي سبق أن تقلد مناصب في النظام كمستشار لدى الرئاسة ووزير للتجارة والمالية، لتقوم الجزائر في عهده بتبريد الجبهات الإقليمية الساخنة وإدارة موجات الخريف العربي العاتية بما يخدم مصالح النظام الجزائري، خاصة بعد تساقط أنظمة مجاورة كنظام زين العابدين بن علي في تونس ونظام معمر القذافي في ليبيا؛ في بداية 2013 وكنتيجة للعديد من المتغيرات الإقليمية تمت إعادة هيكلة النظام الجزائري بما يخدم مصالح العصابة الحاكمة المتمثلة في أخ الرئيس بوتفليقة السعيد بوتفليقة وباقي جنرالات العشرية السوداء حيث تم تعيين أحد أكبر العناصر المتشبعة بالفكر البومديني التوسعي في جهاز الدبلوماسية الجزائري الوزير رمطان لعمامرة في منصب قائد الجناح الدبلوماسي للعصابة وفق إستراتيجية استخدام مداخيل الغاز الجزائري من أجل شراء المواقف والولاءات خدمة للأجندات التوسعية الإقليمية للنظام العسكرتاري الجزائري والحفاظ على الاستقرار الإقليمي ومعه الاستقرار الداخلي للنظام، حيث كان أول القرارات التي اتخذها لعمامرة كوزير للخارجية هو شطب الجزائر لديون 14 دولة أفريقية بقيمة 902 مليون دولار، في تفعيل فج لدبلوماسية دفتر الشيكات تحت غطاء التضامن بين الشعوب وخدمة القارة الأفريقية في محاولة غبية للعب دور إقليمي وقاري على حساب شعوب القارة الأفريقية.

◙ الدبلوماسية الجزائرية تعاني من تداعيات الصراع القائم حاليا في مربع الحكم وأداؤها يتأثر بالسياسة الانفعالية لرئيس الدولة وقائد الجيش

واللافت في الأمر أنه بعد 2013 أصبحت الخارجية الجزائرية مجالا مفتوحا للصراع بين أجنحة النظام الجزائري المتصارعة مثل التيار المدني البيروقراطي المتمثل في أخ الرئيس السعيد بوتفليقة والجنرال توفيق مدين وشكيب خليل وعمار سعيداني وعلي حداد وأحمد أويحيى وعبدالمالك سلال وباقي أفراد العصابة التي استغلت مرض وعجز الرئيس لاختطاف الدولة وتحجيم دور الجناح العسكري ممثلا في جنرالات الجيش كالجنرال محمد العماري وخلفه قايد صالح وباقي قيادات الجيش والمخابرات العسكرية كالبشير طرطاق قائد المخابرات العسكرية (دائرة الاستعلام والأمن) وآخرين.

ورغم تغير الوجوه الدبلوماسية كتعيين عبدالقادر مساهل خلفا لرمطان لعمامرة ثم إعادة لعمامرة لمدة 20 يوما كوزير للخارجية في مارس 2019 ليخلفه صبري بوقادوم ثم إعادة رمطان لعمامرة مرة أخرى كوزير لتتم إقالته بشكل مهين وسحب جواز سفره الدبلوماسي من طرف دبلوماسي آخر متطرف في مواقفه إزاء القضايا الإقليمية هو أحمد عطاف، وبالرغم من عمليات إعادة الانتشار الواسعة التي يقوم بها النظام لعناصر الدبلوماسية الخارجية فإن المتفق عليه أن الدبلوماسية الجزائرية تعاني من تداعيات الصراع القائم حاليا في مربع الحكم وأداؤها يتأثر بالسياسة الانفعالية لرئيس الدولة ولقائد الجيش في غياب إستراتيجية بنفس دبلوماسي هادئ ورصين قادرة على وضع تصور سياسي وإستراتيجية واضحة المعالم، كما أن الدور الدبلوماسي الجزائري في المنطقة تعدى حالة التدخلات العادية إلى التدخل في شؤون دول الجوار وفرض الوصاية الإقليمية عليها مثل تمويل الانقلابات العسكرية وفرض الخطوط الحمراء كخط طرابلس الوهمي فضلًا عن الرشاوى التي تقدمها إلى مؤسسات وأشخاص للتآمر على بلدهم بتمويل حملات تضليل وفبركة الأخبار والملفات الأمنية الهيتشكوكية، وأيضًا محاولة تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية فيها بخلق اضطرابات لزعزعة أنظمة مستقرة أو شراء ذمم وولاءات على نطاق واسع.

• اقرأ أيضا:

            حكام الجزائر يترنّحون… ورئيسهم يفرفش

            السياسة الخارجية الجزائرية أساس العطب الإقليمي (1)

6