السوري لقمان حسين فنان ذو رؤية إبداعية منفتحة على تجارب متنوعة

لوحات انطباعية تصور للمتلقي عالمي الفنان الداخلي والخارجي.
الاثنين 2023/03/06
توالد لوني مستمر

يواصل الفنان السوري لقمان حسين عزف سيمفونيته التشكيلية الخاصة بالكثير من الانطباعية والتجريب اللذين يمنحانه نضجا فنيا ومساحات واسعة للتعبير عن عالمه الذاتي والعالم الجماعي المشترك. إضافة إلى اهتمامه المستمر بالاطلاع على تجارب غيره من الفنانين ليستطيع بذلك أن ينزل نفسه منزلة مختلفة لا تشبه أي تجارب فنية أخرى، بل تحاول موازنة انفعالاته والتعبير عنها.

تشير أعمال الفنان السوري لقمان حسين (1968 - عامودا) إلى أهمية تكوين علاقات وثيقة بينها وبيننا كمتلقين، علاقات تقوم غالبا على أساس من التقارب اللافت والمتصاعد باتجاه ما يؤكد التوازي الدال على التوافق مع ما يثبت فيها الجدة الحقة وأصالتها، الدالة على البعث والإحياء بانفتاح على آفاق جديدة بصبغة لونية لها مداها الزمكاني التي لا تنفي الإضافات المغايرة، ونوعا من العود على بدء بالمؤثرات الخاصة وتداعياتها.

وبفعل عوامل خاصة أيضا لها ارتباطاتها بالخيال والمشاعر، يقتحم حسين بألوانه عالما نصيا مقروءا بصفته التكوُّنية، مشكّلا موجة من المحاكاة تصل ذروتها في تحويل مسافاته إلى أشكال بصرية تندرج تحت مسميات تجريدية تعبيرية منفتحة على تجارب الفنانين الغربيين بتفاعلاتها وانزياحها، بنغماتها الحزينة التي تنمو وترتقي على نحو مناسب في ضوء ذاكرة خاصة لها أهميتها في تنشيط الدورة الدموية لإبداعاته لتلتقي روحها مع ألوانه، راسما مشهدا من الالتحام فيه ما يبقي تلك الإبداعات متحركة ضمن قيم جمالية وبامتداداتها في زمن الخلق المتداخل بشكل أو بآخر.

والفنان في رحلة بحث عما يمكن أن يوصله إلى سيمفونيته الخاصة الموظفة بجوانب منه ومن أحاسيسه لتشكل ملامح تجربة غنية ومنسجمة وكأنها سجادتها التي عليها يرتل حسين كل صلواته، مستمدة من بيئة تحمل في المقام الأول كل مشتقاته اللونية وكأنها إسقاطاته التي تخزن تأملاته الحزينة والجريئة، وتحمل أيضا زحاما وزخما من التوالد اللوني الذي يتبدل من عمل إلى آخر تبعا لينابيعه الخاصة.

محاكاة تحول الألوان إلى مشاهد بصرية
◙ محاكاة تحول الألوان إلى مشاهد بصرية

هذه ميزة تسجل لحسين الذي تغرقه في جانب منها في تحدّ مع المساحات البيضاء وهو يعطيها مدلولها الجمالي إلى جانب لمساته المتدفقة بطاقة توحي بأحاسيسه العالية، فيوظفها بثقة لا حدود لها في أشكاله غير المألوفة، المشبعة به. هنا تظهر مقدرته الحرفية إن كان في توزيع حقوله اللونية أو في تلك الحيوية التي تبقى مرافقة لتلك الحقول الحيوية التي تنبض بهواجسه وأحلامه، وتنعكس في لغته ونظامها، وبالتالي في ملامح تجربته على نحو عام.

والفنان يمتلك سر الاستمرارية وعناصرها مع امتلاكه لمصداقيته بوفرتها الهائلة وهذا ما يجعل العمل الفني لديه ليس مجرد الاشتغال بألوان معينة على مساحة معينة، بل مسؤولية حضارية لها مقولاتها الإنسانية وتحولاتها التي تتم في اتجاهات وبمضامين عدة تمارس وفق إشارات لها انتماءاتها الوجودية/ الحياتية المرتبطة بمؤثرات تقنية، لونية وتعبيرية، تحظى بعاطفة شرقية وبرؤى منسوجة بنسيج شرقي يبرر موجبات ظهوره وحضوره آخذا في الاعتبار تلك اللحظات المناخية حتى يتمكن من التقاطها كقطعة موسيقية من معزوفة طويلة.

وفي ضوء ذلك تبدأ مسألة الانشغال بمشهد الفنان البصري أمرا مثيرا يؤكد أهمية التجديد كعنصر أساسي في التذوق أولا. كما يؤكد أن ألحانه أمر ملائم للتحليل ولتوليد العلاقة بينها كمسألة احتمالية وبين الأذواق الثقافية من جهة ثانية.

من المهم أن نعرف أن التصورات الجمالية التي يمنحها لنا حسين هي نتاج مساره التشكيلي الممتد لفترة زمنية ليست قصيرة، مصطحبة بمقدرة فنية ليست عادية، متعلقة بذاكرة لها أهميتها في تجربته، أقول هي نتاج تمرغ سهوبه بتفاصيلها وتداخلاتها بالعالم الخاص للعمل الفني بدءا من ملاحقاته السريعة والمتواصلة بالزمن المعاش ووصولا إلى لحظات الخلق للوحته الجديدة.

والفنان لا يغادر أمكنة الحدث، ومن العبث إن حاول فعل ذلك، فالحيز المتاح له يسمح له بفهم الظاهرة وتمثلها فنيا في أعمق دلالاتها، والارتقاء بمستوياتها في أعلى تأثيراتها التي تعبر عن إرادته. فالحال عنده تأكيدات على أن جوانب الشكل الخاصة بمنتجه مع المزيد من حركيته يمكن أن تجر كل خبراته الحسية والإدراكية والرمزية إليها عبر جهوده المتراكمة، ولهذا هو يخلق حالة من التوازن بين الانفعالات التي تهيمن على العمل وبين الدوافع التي تدفعه إلى إنتاجها بوسائل اتصالية معيّنة تشتمل على أنظمة تتعلق بتلك العلاقات المعرفية التي تحدث بين المثيرات الفنية والمتعة الجمالية.

◙ فنان يمتلك سر الاستمرارية وعناصرها مع امتلاكه لمصداقيته بوفرتها الهائلة
◙ فنان يمتلك سر الاستمرارية وعناصرها مع امتلاكه لمصداقيته بوفرتها الهائلة 

وخلال ذهابنا معه لاستكشاف عالمه البصري، لا شك أننا سنتلمس عناصرها من إيقاع خطوطه وتكثيف شكله وتسميك لونه وأن هناك تيارا مشتركا يربط بينها جميعا، ويشد أحدهم إلى الآخر، حتى كاد أن يكون المحور الناظم لعمل كل منهم واحدا، فمهما حاول حسين أن يجتاح المشاهد البصرية بمشهده هو، بمشهد يتقصى مادته إن كان في الحياة أو في العالم المتخيل، فسرده يبقى مفتوحا على كل التجارب وكل الخبرات، وهو مخلص لجوهر فنه، ويسبر أعماقه بنظرة ثاقبة ومتأملة، ولا يستجيب إلا للغته وحاجاتها دون أن يتباهى بذلك، باحثا عن أحدث التقنيات والتي تحوز على اهتماماته بمداها الواسع مهما كانت فحوى تلك الإحساسات الملتقطة بأمانة وعمق.

ولعل الفنان في مشروعه المحكوم بالجمال والمواجهة يهرب إلى الأمام، يشق طريقه تصاعديا بدافع الوصول إلى تلك الحقيقة التي تنام داخل وجدان كل فنان ليوقظها ويطلق سراحها على شكل إشارات تعبر عن نفسها دون أن تهدم ذاتها، تتجاوز أسلوب التطويع ولا تسعى للتذويب الفني بل تقوم على التحديد الزمكاني بآلية قياسية مع بعض التحوير في حالاتها التوضيحية التي قد تشكل إحدى التحديات للمخيلة وفعاليتها.

◙ التصورات الجمالية التي يمنحها لنا السوري لقمان حسين هي نتاج مساره التشكيلي الممتد لفترة زمنية ليست قصيرة

وربما كان من المتيسر ملاحظة إخصاب رؤية حسين الإبداعية وتعدد طعم ثمارها، ووضوح أثرها على صعيد افتراضية التذوق وإلزامية قراءتها بوصفها إشارات نصية/ لونية غير منجزة على المستوى البصري. وبغض النظر عما يقال أو ما يمكن أن يقال عن الجماليات التي حققها وما يزال يحققها فهي تقارب مسارات خاضعة لنطاق ما من القيود ومن الإشكالات المحتملة الوقوع.

في السنوات الأخيرة وبعد اغترابه القسري إلى أوروبا، أصبحت المشاهد البصرية للقمان حسين أكثر وضوحا، وأكثر قدرة على فهم دلالاتها الخاصة، وأصبح بإمكان المتلقي بغض النظر عن درجة ثقافته أن يقرأها على نحو مناسب دون أن يكتفي بالنظر إليها فقط، فوجبته البصرية هذه المرة لا تشتمل على ألوان وخطوط وما بينهما من متعة وتعب، بل مشاهد طبيعية تعكس تصوره الجديد للمكان الذي بات يتنفس فيه، وتستجيب إلى حد ما لتصوراته وانفعالاته الجديدة التي تنسجم كثيرا مع رؤية متلقيه الجديد أيضا.

هذه الانطباعية التي بات الفنان يقاربها بانتباه أكثر سعة وبمهارة حركيّة أكثر دقة، وبتوافر شروط بيئية محيطة به، قد تكسب تجربته مقولات جديدة دون إحداث أي اضطرابات فيها، فالجدة والإبداع هما جناحاه في هذا التحليق الجديد، ونعتقد أن العديد من خصائصها تتفق مع سلوكه الاستكشافي، الخارجي منه على الأقل حيث المثيرات الجديدة متاحة على نحو آمن. ومع زيادة الارتقاء بها تصبح تفضيلاته الجمالية أكثر تركيبا وإثارة للتأمل والاستمتاع بها، ويصبح الحكم الجمالي ذاته موضوعا للاهتمام والتقييم، ويظهر علامات السرور والدهشة نحوه، ويصبح الاتجاه الأساسي في تحديد ووصف العمل الفني ليس تلك التفاصيل الخاصة بالألوان والخطوط والملامس فحسب بل ما تحمله سياقاتها الدالة إلى استبصار جديد.

◙ الفنان في مشروعه المحكوم بالجمال والمواجهة يشق طريقه تصاعديا بدافع الوصول إلى الحقيقة ليوقظها ويطلق سراحها

يلح لقمان حسين في تقصي الحراك الدائر على بناء الأحداث بمفرداتها المقتبسة من منظور فني مغاير للمنظور المتعارف عليه، ويُحْيي فيها الأدائية الفنية التي تعتمد على المشهد المقدم بسرده وتلميحاته المهمة للغاية والتي ستعزز منتجه مهما كانت الإشكالات التي قد تعترضها، وبمستوياتها المختلفة، فحسين يتسم بالمرونة إلى حد ما، ويملك من الخبرة الفنية ما يجعله قادرا على أن يرمم روابطه الإبداعية بين عالميه الداخلي والخارجي.

ويهتم الفنان في الوقت ذاته بالألفة والحميمية بين عالميه، وهنا تبدأ الطاقة النفسية بالتسرب إلى المنتج كإشارات ضمنية متبادلة ومتكافلة ترتقي بحركاتها المألوفة وتكسبها إثارة خلاقة تكون بمثابة رد الروح للنشاط الإبداعي ذاته، وكتمهيد لتوظيف تحولاته المختلفة تلك في أنماط سلوكية تنشط دورتها الدموية في ضوء اهتماماته بتحرير التوترات الخاصة به والتي قد تؤدي إلى تحطيم تلك الحواجز التي قد تلد وهو يمضي في الاتجاه المضاد للنكوص، والعودة إلى المصادر اللاشعورية الخاصة بالإبداع وبالاحتفالات السحرية.

أقول كتمهيد لتوظيف تحولاته المختلفة في اجتياحاته، لا بد له من حاضن سردي لإمكاناته وهي تتطور في النمو والنضج وصولا إلى مرحلة تتبلور فيها نصوصه الإبداعية.

 

14