السوري أحمد زكي يحول اليومي إلى تأكيد للذات

مشابك الغسيل تتحول لوحات مفعمة بالحياة.
الاثنين 2022/12/19
مشابك مقيدة ومعبّرة

قد ينظر أغلبنا إلى مشابك الغسيل على أنها أداة صغيرة تسهل عملنا اليومي لا غير، لكن الفنان السوري أحمد زكي نظر إليها من زاوية مختلفة حولتها إلى بطل للوحاته، بطل يبعث المعنى والروح بألوانه المتنوعة ويسلط الضوء على حساسية الفنان التشكيلي تجاه كل ما يحيط به.

نحتاج دوما إلى دوافع عدة حين نقرر قراءة تجربة فنان ما، فلا بد من توفر دوافع عملية للقيام بهذا الفعل، فعل القراءة، بحيث إذا تناولناها وجدنا المتعة والفائدة والجمال، أو دفع الشر والشبهة بعيداً على أقل تقدير، وبمقتضى الحال أن تكون هناك مجاهدات في تحصيل المعارف الفنية، وأن تكون هناك مكاشفات توضح كيفية الوصول إلى مخازنها بصفات العشق والحب مثلاً، والتطرق إلى منازلها. وهذه من المعارف الفضلى للذات وأجلها وأكملها.

ثيمة لقاطات الغسيل التي يستخدمها أحمد زكي هي ثيمة غنية الحركات يحييها ويبعث الروح والمعنى فيها
ثيمة لقاطات الغسيل التي يستخدمها أحمد زكي هي ثيمة غنية الحركات يحييها ويبعث الروح والمعنى فيها

نعم نحتاج إلى دوافع تبرر قراءتنا إن كانت في مخاطبات رمزية في وجع الدنيا وأهلها، أو في التطرق لوصايا الحكماء وهدفها. فالغاية هنا جمالية تحيي القلب وتنفخ في الروح، وتقرب الذات من فطرتها السليمة حيث تزداد شوقاً إلى المعارف الحقة.

والدوافع هنا عند مقاربتنا لأعمال أحمد زكي (القامشلي – 1977) كثيرة ليست أولاها تلك الثيمة التي يشتغل عليها وأقصد ثيمة لقاطات الغسيل، ولا آخرها تخليه عن الأحكام الوهمية في تهذيب الباطن أو الظاهر. فمبدأه يكمن في عشق الفن الكامن في الطبيعة والألوان والإنسان. وهو يرفض القيام بكسر كل ما يناقض ذلك، فأحمد زكي معني بأدوات هي ليست شطحات الإنسان ولا نهاية أمور تسير من محطة إلى أخرى، بل هي أدوات ناطقة بكلام كثير هي مداخل ومخارج لقطاته التي تجمع من عدة جهات مختلفة في المكان نفسه نحو الوحدة الحقة، الوحدة التي تركض من لقطة إلى أخرى دون استنباط الدرب الذي تسلكه بين لقطتين، وبناء على ذلك فإن اهتمامه لا يتمفصل على العالم الحسي الخيميائي فحسب، بل على ما ينجم عن مستوى ذلك التعبير الذي يحرض أشكاله للمصالحة مع مضامينها الموضوعية والتصويرية.

من هذا المنظور المغاير يتطلع زكي إلى أفق جديد مغاير، أفق يبدأ من حيث انتهى الآخر.

أعود إلى ثيمة لقاطات الغسيل التي يستخدمها أحمد زكي وهو يدخل عوالم اللون، وهي ثيمة غنية الحركات يحييها زكي ويبعث الروح والمعنى فيها، يحرر مشهديته بها، تلك المشهدية التي يهيمن عليها نوع من الوعي والأحلام، فيعمل على تحريرها من تلك الهيمنة، ومن ذلك الاختزال الذي تعيش فيه كمدلول ضيق يرفض المغايرة، ساعياً للنهوض بمحاولاته التي سيدخل بها عالم السرد اللوني بإشاراته المتكئة على ثيمته تلك التي أشرنا إليها وأقصد هنا لقاطات الغسيل.

المشابك بطلة اللوحة
المشابك بطلة اللوحة

والفنان هنا ينهض على سبيل توكيد الذات بوصفها وداعية، تغريبية في بعض حالاتها، وكاشفة وتفسيرية في بعضها الآخر، وما تلك المشهدية إلا ثمرة هذا التمازج بين تلك الحالات التي قام بها زكي ويقترنها بالحراك الذي سيعصف بالحدود الفاصلة بينها. ونتيجة لهذا التمازج الذي تولاه زكي يؤكد ارتباطه بالتنوع الذي يبحث فيه، وبالعالم الجديد بمكوناته وعلاقاته وقيمه، العالم الذي يعبر عنه كوليد جديد في طريقه إلى اللاأفول، موضحاً آلياته وتنوعها وترتيبها، وكذلك مبررات قبولها مبتدئاً بالاتجاهات الجوانية، نطاقها وقواعدها ودراساتها، منتقلاً إلى اتجاهاتها الإستراتيجية، متناولاً ماهية البحث فيها ودورها في تحديد نطاقها والخطوات التي ستمثل جانبا مهما ولصيقا ببحثه ذاك دون أن يؤدي ذلك إلى تجاهله لسمات عمليات التجريب لديه ولا للخصائص المعرفية التي سترسخ مبادراته، وقد يتوصل من خلالها إلى أفكار إبداعية جديدة في إطار ما من الجدل.

موهبة عالية
موهبة عالية

وما يجدر الاهتمام به هنا هو سعيه في هذا الاتجاه من الحالات التي تتطلب ما هو أقرب إلى الفعل وبكثير من الجهد، هو سعيه للوقوف عند نقاط مهمة قد تعترض حقله الجمالي ما لم يفتح نوافذ أفقه على مصاريعها، فالانغلاق عائق كبير ومميت.

ولهذا لا بد من الفتح المبين، وهذا ما سيستثمره في خلق عالم جديد يتجاوز به سابقه، ويتفوق عليه حتى يغدو مفجراً إبداعياً في عدد غير قليل من الحالات التي يشتغل عليها.

أحمد زكي التقط بذكاء حاد ثيمة هي خزينة كنوز، لكنه لم يستثمرها بعد، لم يستثمرها تماماً بالشكل المطلوب، ولم يتعرف على تفاصيلها كلها بعد، فهي ما زالت تنتظره كعاشقة تنتظر حبيبها الذي جرفه البحث والتجريب إلى ضفاف أخرى. ومن المفيد أن نشير إلى أن التنوع مهم، ولكن من المهم أيضاً أن يدرك الفنان بأن الكنز الذي وضع يديه عليه، أن يشتغل به وعليه، ويشبعه بروحه وأحاسيسه، ليمنحه ما يشاء، ويشبع روحه وبحثه وحبه بكل جزيئاته، أن لا يرمي كنزه بعيداً ويذهب إلى البحث عن كنوز أخرى، صحيح أن متعة البحث كبيرة لكن متعة الكشف والاستثمار أيضاً كبيرة وجميلة. ونحن نقول له لا تدر ظهرك إلى ما وجدته، اشتغل عليه ما حييت، اذهب بعيداً قليلاً، وغص أينما تشاء والتقط ما تجده في طريقك، ولكن لا تفرط في ما بين يديك، الحب وحده لا يكفي، الاهتمام والاشتغال به أهم، وهذا ما سيفجر الينابيع التي تبحث عنها وتحب أن تستحم بها، وما محاولاته في تحديد السبل والآليات المناسبة لهذا اللون من البحث إلا خطوات للسير نحو نمطيته وتحديد مقياسه، والجدوى من خصائصه.

والفنان يطرح المسألة بموهبة عالية وقدرة على اكتشافها والوقوف على ماهيتها ومرتكزاتها، مدركاً أن أي خلل في هذه الماهية وهذه المرتكزات سيؤدي إلى تشويهها حتماً، وهو يقظ لذلك ولجدوى بحثه والحرص عليه، وعلى مدى تجديده وهنا يكمن سر نجاحه.

درس أحمد زكي في معهد إعداد المدرسين، قسم التربية الفنية في الحسكة وتخرج منه عام 1977، ليعمل مدرساً لمادة التربية الفنية في معهد إعداد المدرسين، ومعهد الفنون النسوية في القامشلي، وقدم

معارض فنية فردية ومشتركة في كل من الحسكة والقامشلي، هاجر إلى ألمانيا في عام 2014 وما زال مقيماً فيها إلى الآن.

نظرة مختلفة لحبال الغسيل
نظرة مختلفة لحبال الغسيل

14