السرد في المسرح
شكّل السرد أساس المسرح الشرقي القديم، الذي يعود بأصوله إلى رواية الملاحم، مثل الماهاباهاراتا والرامايانا. وكان نشاطا أساسيا في حلقات “المداح” و”الحكواتي” التي كانت تُقام على هامش الأسواق والاحتفالات في المدن والقرى العربية.
ورغم أن السرد في المسرح لم يكن محبّذا، لجأ إليه بعض الكتّاب بشكل كبير كضرورة درامية عملية. ففي المسرحين اليوناني والكلاسيكي الفرنسي شكّل حلاّ لما تتطلبه القواعد المسرحية الصارمة على صعيد الكتابة من تكثيف لزمن الحدث، والالتزام بوحدة المكان فيه. ولهذه الأسباب وغيرها قُبل السرد، وجرى التعامل مع وجوده في العمل المسرحي كعرف من الأعراف المسرحية. ويتضمّن السرد عادة حدثا من الماضي يقع خارج الخشبة، عدا حالات استثنائية يكون فيها إبلاغا ورواية لما يحصل خارج الخشبة في وقت السرد نفسه.
في المسرح الغربي الحديث بدأت العودة إلى فنون السرد مع بيسكاتور وبريشت، بعد الموقف المناهض لاتجاه مظاهر التسريد القصصي الذي لازم الواقعية الطبيعية. وقد استفاد بريشت من القالب السردي ليُدخل على مسرحيّاته عناصر التغريب، التي تشكّل قطعا في استمرارية الحدث، وتُكسِّر الإيهام من خلال التأكيد على ظروف إنتاج الكلام، لأن السرد في المسرح الملحمي، على العكس من المسرح الدرامي، يقدّم نفسه على أنه سرد مقصود، وهو يؤدي إلى التغريب من خلال عناصر واضحة تؤدي إلى تفكيك المضمون عبر شكل أغنية أو توجّه إلى الجمهور أو معلومة مكتوبة على لافتات.
كما أنه يسمح بتقديم الأحداث ضمن امتداد زمني، مع تبيان أنها جرت في الماضي، مثلما يحدث في الملحمة، ويسمح أيضا بالتوقف عندها والتعليق عليها.
في أعقاب رحلة هذا المسرح إلى الشرق، أصبحت استراتيجيات القص المتجذرة في الثقافات الفرجوية الأفريقية والآسيوية (بما فيها العربية)، تغزو أعمال روبرت ولسون وبيتر بروك وآريان منوشكين وآخرين.
وصار استخدام السرد خيارا واعيا في الفترة التي تلاشت فيها الحدود بين الأنواع المسرحية وغابت القواعد التي تحدّد ما هو مقبول وما هو مرفوض في المسرح، وعرف المسرح العربي منذ الستينات من القرن العشرين هذا التطور نفسه بلجوئه إلى القالب السردي، خاصة أن القص يشكّل جزءا من الذائقة العامة ومن التراث الشفوي في العالم العربي، ومن أشكال فرجة يقوم أغلبها على القص والسرد (الحكواتي والراوي والسامر).
اليوم نلاحظ دعوات عديدة يطرحها بعض المسرحيين العرب لإعادة ظاهرة الحكي أو السرد إلى المسرح العربي انطلاقا من أن الزّمن الرّاهن يشهد ازدهارا لم يسبق له مثيل للعروض ذات الطابع السردي في جميع أنحاء العالم، حيث يأخذ “المونولوج” الأسبقية على “الديالوج”، ومن ثم يزلزل وهم “الدراما”.
من أبرز الداعين إلى ذلك الباحث المسرحي المغربي خالد أمين مع الفريق الذي يعمل معه في “مهرجان طنجة للفنون المشهدية”، الذي نظّم العام الماضي مؤتمرا دوليا بعنوان “المنعطف السردي في المسرح: عودة فنون الحكي للمسرح” في دورته الثانية عشرة، تأكيدا لحاجة الثقافة المسرحية في العالم العربي الآن إلى تسليط المزيد من الضوء على التداخل بين “المنعطف السردي” ونظيره “الأدائي”.
ومن بين المحاور التي جرى البحث فيها: جماليات الفرجة السردية المعاصرة ومظاهر تسريد الأحداث الواقعية في المسرح والمحكي الذاتي والمحكي الجماعي في المسرح. لكن هذه الدعوة وغيرها لم تجد إلا صدى محدودا، فما زال المسرح “الدرامي” الذي يقوم على الفعل والحوار المتبادل بين الشخصيات يهيمن على أغلب تجارب المسرح العربي، باستثناء التجارب المونودرامية التي تنحو بطبعها إلى السرد، ولا يشكل الفعل الآني سوى جانب ضئيل فيها.
كاتب من العراق