السرد في المسرح
ناهض العديد من النقاد، مع بزوغ فجر الحداثة، استخدام السرد في المسرح، إن لم تفرضه ضرورة درامية ملحّة لا مفرّ منها، كما في المسرحين اليوناني والكلاسيكي الفرنسي، حيث لجأ إليه الكتّاب ، حتى عُدّ عرفا دراميا، بسبب متطلبات قواعد الكتابة المسرحية الصارمة.
لقد شكّل السرد قاعدة المسرح الشرقي القديم، الذي يعود بأصوله إلى رواية ملاحم الماهاباهاراتا والرامايانا. كذلك كان نشاطا أساسيا في الحلقات التي كانت تُقام على هامش الأسواق والاحتفالات في المدن والقرى العربية (المداح والحكواتي). وذهب النقد الحديث إلى أن السرد، بمعنى تتابع أحداث حقيقية أو متخيّلة، هو الأساس الذي تقوم عليه كل أشكال الكتابة، بما فيها المسرح على اعتبار أن الحكاية تشكّل البنية العميقة للنصّ المسرحي، وهذا ما سمح بتطبيق الدراسات التي انصبّت على الحَكايا والسرد في مجال المسرح، كما يقول فرانشيسكو جارثون ثيسبدس في كتابه “مسرح السرد التمثيلي”.
في المسرح الحديث لجأ بريشت إلى صيغة المسرح الملحمي، التي تقوم على مبدأ الرواية، وعدّ السرد فنّا يتضمن ما هو درامي، ويسمح بتقديم الأحداث ضمن امتداد زمني، مع تبيان أنّها جرت في الماضي كما في الملحمة، ويسمح أيضا بالتوقف عنها والتعليق عليها، كما هي الحال في مسرحية “دائرة الطباشير القوقازية”، و”الأم شجاعة” وغيرهما.
واستفاد بريشت من الشكل السردي ليُدخل على مسرحياته عناصر التغريب التي تشكّل قطعا في استمرارية الحدث، وتُكسِّر الإيهام من خلال التأكيد على ظروف إنتاج الكلام لأن السرد في المسرح الملحمي، على العكس من المسرح الدرامي، يقدّم نفسه على أنه سرد مقصود، وهو يؤدي إلى التغريب من خلال عناصر واضحة تؤدي إلى تفكيك المضمون عِبر شكل أغنية أو توجه إلى الجمهور أو معلومة مكتوبة على لافتات. ومن العناصر التي تتعلّق مباشرة بالسرد وتؤدي إلى التغريب وجود الراوي كدور مستقل، وكشخصية خارج الحدث. وسرد الراوي وتعليقه على الحدث يسمح للمتفرج بأن يحكم بموضوعية أكبر، حسبما يرى الناقد سعيد الناجي في كتابه “المسرح الملحمي والشرق”.
وأصبح توظيف السرد في المسرح الحديث خيارا واعيا في الفترة التي تلاشت فيها الحدود بين الأنواع المسرحية، وغابت القواعد التي تحدّد ما هو مقبول وما هو مرفوض في المسرح، فبتأثير من بريشت، ونتيجة للانفتاح على المسرح الشرقي والشعبي، حدثت عودة كثيفة في المسرح المعاصر إلى الأشكال السردية من خلال استخدام تقنيات المسرح الملحمي. وعرف المسرح العربي منذ ستينات القرن العشرين هذا التطور نفسه بلجوئه إلى القالب السردي، خاصة أن القص يشكّل جزءا من الذائقة العامة، ومن التراث الشفوي في العالم العربي، ومن أشكال فرجة يقوم أغلبها على القص والسرد (الحكواتي والراوي والسامر). ومن هنا تشكّل ندوة “طنجة المشهدية” مبادرة في غاية الأهمية للمسرح العربي.
كاتب من العراق