"الزردة" في تونس تظاهرة ثقافية ريفية لا بد من دعمها

تراجعت الكثير من مظاهر الثقافة الشعبية في تونس على غرار بقية البلدان المغاربية والعربية عامة، فمثلا اختفت ظاهرة “الزردة” كما تسمى في تونس وهي من الاحتفالات الشعبية التي تقام في الخريف، ظاهرها تبرك بالأولياء الصالحين وباطنها مناسبة اجتماعية واقتصادية وثقافية من خلال ما يرافقها من فنون الغناء والأهازيج.
لماذا لا تتوحد المهرجانات المحلية الصغيرة ذات المنشأ الروحي، وهي كثيرة ومنتشرة في كامل تراب البلاد التونسية، وتجمع نفسها على شكل مهرجان موسع فيما يشبه الكرنفال أو البينالي كما هو الشأن في أميركا اللاتينية وبعض بلدان أفريقيا وآسيا.
مقترح تقدمت به شخصيا إلى الجهات الثقافية في تونس بقصد الاستفادة القصوى من ذاك التراث اللامادي وتطوير هذا الزخم الاحتفالي الهائل، وإخراجه من كنف الغيبيات والشعوذة أولا، ومن ثم التعريف بالمواهب والطاقات الفنية المنسية والمهمشة ثانيا.
ذاكرة شعبية
الخريف في تونس وأقطار المغرب الكبير عموما، موسم ما يُعرف بـ”الزردة” في جميع القرى والبلدات.
والزردة هي عبارة عن وليمة كبيرة تقام تقربا من الولي الصالح الذي يخص تلك المنطقة، فتنشط عند ضريحه الأسواق وتذبح له الذبائح، وتقام الاحتفاليات المتركزة على عروض الخيل وإنشاد الأهازيج والشطحات الصوفية المعروفة بـ”النوبة”.
وعادة ما تكون الزردة في موسم معلوم بعد الجني والحصاد وقبل بدء الحرث والزرع. ولكل قوم “زردتهم المحددة” زمنيا ومكانيا تقريبا حتى تتحول إلى عادة يألفها الناس ويتهيؤون للاحتفال بها فيتأنقون لها وتُضرب فيها حتى مواعيد الغرام.
وتتجاوز الزردة مجرد التبرك بالولي الصالح، فهي تمثل أيضا مناسبة تجارية واقتصادية، بالإضافة إلى المنتجات التقليدية التي تصنعها النساء في بيوتهن، فضلا عن الأنشطة الثقافية والموسيقية.
وما يعطي مثل هذه الاحتفاليات بعدا كونيا هو أن الكثير من الأولياء الصالحين الذين تقام عند مقاماتهم وأضرحتهم الزردة، يشترك في الاحتفاء بهم الجيران الليبيون والجزائريون والمغاربة، بل حتى من موريتانيا ومصر، وكذلك إيطاليون ومالطيون مثل الاحتفالات التي تقام في ضاحية حلق الوادي شمال العاصمة التونسية.
هذا بالإضافة إلى أنها تمحو الفوارق بين الجنسين، بعيدا عن التعصب الجندري، ولا نستثني في هذا الإطار النساء من الوليّات الصالحات، ففي تونس نجد العديد من أضرحة الصالحات تتوزّع في كلّ التخوم فـ”للاّ القلعة” في مدينة قفصة تحرس أبناء الجنوب، و”للاّ عزيزة” بالقصرين، و”أمّ الزين الجماليّة” بالساحل، و”للاّ المنوبية” بالعاصمة.. ولكل منهن مواسم ومواقيت وتقام لهنّ الولائم والاحتفالات.
كل هذه الجذور الراسخة في الذاكرة الشعبية للبلاد التونسية تجعل من الزردة مهرجانا يمتد أفقيا وعموديا ليكتسب مشروعيته من التاريخ والجغرافيا، وما بينهما من ذاكرة شعبية تقاوم النسيان والانحلال.
رافد ثقافي
يؤكد الباحثون الاجتماعيون واختصاصيو الأنثروبولوجيا أنه ليس هناك من تظاهرة ثقافية تعكس البعد الروحي والعادات الضاربة في القدم والمتقاطعة مع الثقافات الأخرى مثل الزردة. كما أنها نشاط تجاري يسير بالتوازي مع الحراك الفني والثقافي، مما دفع الكثير من الباحثين والمستشرقين إلى الاهتمام بها ودراستها كتظاهرة شعبية تشي بالكثير من المخزون الثقافي والروحي للريف في تونس والبلدان المغاربية المجاورة.
ويكاد لا يوجد مواطن تونسي لا ينتمي روحيا إلى أحد الأولياء الصالحين، يتبرك به بل ويحلف باسمه.. وهو دليل على العمق الريفي للمجتمع الحضري.
وحتى الوافدون إلى تونس من بلدان أوروبية متوسطية ثم استقروا بها وأعلنوا انتماءهم إليها، يسارعون إلى التمسك بأحد الأولياء، وفيهم من صار من المريدين و”حجاب المقام” أي أولئك المشرفين على خدمة الزاوية المنسوبة إلى هذا الولي أو ذاك.
وفي هذا الصدد يقول أحد حجّاب المقام “لا يمكن تفويت موعد الزردة مهما كانت الظروف، فعلى من تزامن موعد زواجه مع حلولها أن يؤجله، ومن كان يعمل بعيداً أن يعود ليحضرها”، ويضيف الشيخ الذي لا يبارح مقام أحد الأولياء “كل من له التزامات مهما كان نوعها يجب أن يؤجلها أو يقدمها، ومن لا يفعل ذلك يحدث له أمر سيء”.
"الزردة" رافد فعّال من روافد الثقافة بمفهومها الشعبي الواسع، وعلى السلطات أن تجد لها صيغة جديدة ومتجددة
وحاولت الدولة البورقيبية بداية الاستقلال في منتصف خمسينات القرن الماضي أن تلغي هذه الاحتفالات دون جدوى، إذ تعتبرها من مظاهر التخلف وتعادي العلمانية التي طمح لها الزعيم التونسي، لكن السكان تمسكوا بها أكثر من أي وقت مضى، واعتبروها جزءا من كرامتهم الوطنية.
وفي هذا الصدد يقول الباحث الاجتماعي مهدي مبروك، الذي شغل منصب وزير الثقافة منذ سنوات، “الزردة جزءٌ من الإسلام الشعبي الذي يحتفي بأولياء الله الصالحين، كما أنها جزء من المعتقد الصوفي الشعبي الذي تراجع بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، بعد ظهور بعض حركات الإصلاح ومنع هذه الشعائر (...) لكنها ظلّت قوية”.
ويضيف مبروك أن الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة منعها منذ الستينات واعتبرها من “التراث المتخلف”، غير أن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي أعاد إحياءها منذ التسعينات، وأعاد هندستها بثقافة جديدة بهدف محاصرة الإسلام السياسي.
وتمتد الزردة مدة ثلاثة أيام بنهاراتها ولياليها، وتنصب فيها الخيام على امتداد السهل الواقع قرب ضريح الولي، وتنشط حركة البيع والشراء بالتوازي مع نشاطات فنية وثقافية وحتى رياضية. وقد وقع تأطير وتشذيب تلك التظاهرات بما يلائم النظام إلا أنها حافظت على روحها الاحتفالية وبعدها الصوفي.
هي بلا شك رافد فعّال من روافد الثقافة بمفهومها الشعبي الواسع، وعلى سلطات الإشراف أن تجد لها صيغة جديدة ومتجددة تواكب العصر وتلبي احتياجات الأجيال الجديدة.
وبات تجميع هذه التظاهرات في مهرجان واحد وموسع ضرورة لا غنى عنها، مما يكسب الثقافة المحلية بعدا كونيا ويعطيها نفسا مغايرا عن السياحة الثقافية بمفهومها الروتيني.