الروبوت ينظم الشعر ويمارس الرسم.. فماذا تبقى للبشر؟

لم يعد اقتحام الآلة مقتصرا على مهام اعتدنا تقبلها بعد قليل من الممانعة، العاملون في النشر والصحافة في ثمانينات القرن الماضي، يتذكرون أمثلة كثيرة على ذلك. يومها كان إنتاج صفحة في جريدة يومية عملا شاقا، يحتاج إلى جهد مشترك لأكثر من متخصص، حيث الوصول إلى معلومة في غرفة الأرشيف، يتطلب الخوض في رفوف من الكتب والوثائق، التي غالبا ما كان يعلوها الغبار، وتشكل عذابا بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الحساسية.
كان إنتاج الصفحة الواحدة يمر بالعشرات من المراحل التقنية، متنقلا بين أقسام التحرير والتدقيق والتنفيذ والتصوير، هذا بالطبع قبل أن ينتهي الأمر بغرفة مظلمة، مليئة بالأحماض، ومجهزة بآلات عملاقة انقرضت كلية.
لو قلت، في الثمانينات، لأي تقني إن تلك المعدات ستنقرض وتختفي خلال عقد من الزمان لسخر منك، وابتعد عنك، بعد أن يرمقك بنظرة ريبة تدفعك للشك بقدراتك العقلية.
حصل كل ذلك وأكثر، وانقرض المشككون مع معداتهم. وبات إنتاج الصفحات عملا نظيفا خاليا من رائحة الأحماض وغبار الأرشيف.
لتوضيح حجم النقلة، لهؤلاء الذين لم يعاصروها، دعونا نسوق مثلا واحدا، هو عملية يقوم جميعنا بها بشكل شبه يومي، هي مسح صورة رقمية لوثيقة أو صورة، باستخدام تطبيق نحمله مجانا على هاتفنا المحمول الذكي، كان إنجاز مثل هذا يتطلب في الماضي أجهزة غاية في التعقيد، تسمى بالسكانر، تبلغ كلفة البعض منها رقما يكفي لشراء عمارة سكنية في القاهرة.
في بداية التسعينات، شهدت صحيفة “العرب” نقلة كبيرة في الإنتاج، وأكاد أجزم أنها كانت سباقة في هذا المجال؛ قاد هذا التحول الكبير حينها شابان اتصفا بالشجاعة وبعد النظر، هما رئيسا تحرير “العرب” الآن، وكنت إلى جانبهما، أشاركهما نفس الحماسة.
لا داعي لذكر التفاصيل، لأن سردها يحتاج إلى مجلد كامل، ولكن ما يستحق الذكر هو أننا، نحن الثلاثة، لقبنا من قبل العاملين، بأعداء الطباعين. لا أعتقد أن أيا منا اليوم ينكر تلك التهمة، ولكن أضيف إليها أننا كنا سباقين في تقبل التغيير، الذي تنعم به أجيال من الصحافيين والفنيين اليوم، وهو تغيير لم يكن بالإمكان تلافيه، كان إلى جانب أسباب أخرى كثيرة، سببا في صمود الصحيفة في عالم متغير لا يرحم المترددين.
ذكر هذه المعلومات ليس مجرد نوستالجيا، بل هو ضرورة تحتمها تطورات مذهلة تحدث في عالم الذكاء الاصطناعي والخوارزميات ونشهد آثارها اليوم.
وكما انقرض الذين واجهوا الثورة الرقمية بالأمس القريب، سينقرض المشككون بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وما قد تجلب معها من تغيرات وتحديات لوسائل الإنتاج وآلياتها، سواء في المعدات أو في البشر.
بالتأكيد مازلنا نتذكر الروبوت “أيدا”، الذي توقع له النقاد وجامعو الأعمال الفنية مستقبلا زاهرا، وأثبت أنه قادر على إبداع آثار فنية اعتمادا على تقنيات الذكاء الاصطناعي. فهو يستطيع عن طريق كاميرات مجهز بها أن يرى البيئة المحيطة به ويحللها ثم يرسمها، مستخدما ذراعا آلية وأقلاما ملونة.
واليوم بعد 8 أشهر من تقديم الروبوت الرسام، قدم لنا باحثون، من جامعتي كولورادو ودروري بالولايات المتحدة روبوتا يمكنه نظم الشِّعْرِ.
ويرجع أصل هذه الفكرة إلى الباحث برندن بينا، الذي كان يعمل على ابتكار منظومة لتقليد أساليب كتابية أدبية، ولأن معظم كلمات الأغاني تخضع لقوانين حماية الملكية الفكرية، قرر بينا تطوير منظومة للتعلم العميق لنَظْمِ الشِّعْرِ.
وقام الفريق بتغذية الروبوت بكميات كبيرة من أبيات الشعر من مصادر مختلفة، ثم تصنيفها تحت أبواب مختلفة حسب نوعية المشاعر التي تعبر عنها هذه الأشعار، مثل باب للأشعار التي تعبر عن السعادة أو الحزن أو الغضب وما إلى ذلك.
عرضت أبيات الشعر التي أنتجتها منظومة الذكاء الاجتماعي على نقاد لتقييمها، وجاء حكمهم أن الأبيات نجحت في التعبير عن الحزن بنسبة 87.5 في المئة، وعن الفرح بنسبة 85 في المئة، وأن هذه النصوص أثارت عند المتلقي نفس الانفعالات التي نتجت عن نصوص يكتبها مؤلفون بشر.
كان الفنانون والمبدعون يظنون، حتى اليوم، أن المهن التي يمارسونها محصنة، لن تستطيع الروبوتات اقتحامها، وأن الذكاء الاصطناعي لن يحيلهم على التقاعد، إلى أن ثبت بالبرهان أن الذكاء الاصطناعي قادر على التعبير عن نفسه بالخط واللون والكلمة.
لقد شهد العالم مزادا لبيع أعمال فنية قام الإنسان الآلي بتنفيذها، حققت نجاحا وإقبالا من جامعي الأعمال الفنية، وهو يحبو اليوم أولى خطواته في نظم الشعر، وهناك محاولات جادة لتعليمه باقي الفنون الأدبية.. فماذا تبقى بعد ذلك للبشر؟