الرواية بين التحريم اللاهوتي والسخط السياسي

لماذا يتكرر الحديث عن الروائي والكاتب المصري نجيب محفوظ رغم مرور سبعة عشر عاما على رحيله؟ الإجابة ببساطة فيما قدمه محفوظ لفن الرواية وللأدب عموما، ما جعله من ركائز هذا الفن الأدبي الأساسية، كما أن استعادة تجربته استعادة لمسار ثقافي عربي كامل.
منطقة الإبداع الروائي مترامية الأطراف ومتشابكة مع الحقول المعرفية، وما يقع ضمن طبقات جوفية للفكر البشري، وبقدر ما يبدو هذا الفن مرنا فإنه في الوقت نفسه متصادم مع المتواضع عليه اجتماعيا وسياسيا ولاهوتيا. وذلك لأن أخلاق الرواية هي المعرفة والغاية منها هي الاكتشاف والمتعة، وبالتالي ما يرمي إليه المبدع هو الزيادة في إمكانية التفكير من خلال ما يضمره في اللغة من الأسئلة الانفجارية بشأن المواضيع الخلافية.
هنا تسجل اللغة الإبداعية تفوقا على اللغة الفلسفية، لذا تنصح الكاتبة والمفكرة الأيرلندية آيريس مردوك الفلاسفة بتمكين أدواتهم التعبيرية من إضاءة مناطق تقبع في الظلام إسوة بالأديب الذي يتخذ من لغته وسيلة لإعادة التموضع وتشكيل الخطاب واختيار معتركه، كما فعل ذلك الروائي المصري نجيب محفوظ.
عين العاصفة
عاصر مؤلف “كفاح طيبة” مرحلة النهوض الفكري والأدبي في العالم العربي وتابع ما يمور به المشهد من تجاذبات بشأن الفن الأحدث، نقصد الرواية، والرهان المعقود عليها. إذ عبر محفوظ عن رأيه بوضوح حين كان النقاش قائما عن الجنس الأدبي الأصلح لتلبية متطلبات العصر ومواكبة التحولات في الرؤية والمذاق. فالقصة هي الفن الأنسب في نظر محفوظ لأنها تجمع بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلى الخيال.
أما على المستوى الشكلي فيرى أن للرواية فرصة لتطويع صفات المسرح والسينما والفنون الأخرى في شكلها الخاص. طبعا هذا الكلام يكشف عن السبق في إدراك مواصفات الرواية ومرونتها وما يعني التحرك في مناخها الواعد بالتشويق والمرونة في تناول المعطيات الفكرية والحياتية.
ولا يخفى على المتابع أن خط نجيب محفوظ في الكتابة الروائية يتجدد باستمرار ويستمد زخمه من روافد التاريخ والواقع والفلسفة والعلم. وذلك سر التنوع في حصيلته الإبداعية. لا شك أن خلفيته الفكرية لعبت دورا كبيرا في ضخ نصوصه بالشحنة الفلسفية والانتقال بها نحو منحى سجالي، وهذا ما يتجلى في رواياته الذهنية ولاسيما واحدة من باكورات أعماله “أولاد حارتنا” الحلقة الأولى لهذه المرحلة.
ومن المعلوم أن الرواية كان لها دوي كبير كما وضعت صاحبها في عين العاصفة وفتحت عليه الجبهة من كل حدب وصوب، وأثارت جدلا حادا، وإلى الآن لا يوجد ما يوازيها في الرواية العربية حمالة للتأويل. الأمر الذي حدا بـ”أولاد حارتنا” بأن ترسخ في المشهد الروائي العربي.
من جانبه بادر الكاتب والصحافي محمد شعير لمتابعة حيثيات ما رافق الرواية بدءا بنشرها متسلسلة في الأهرام مرورا بقرار الحظر وصولا إلى التأليب على صاحبها ومحاولة اغتياله، وذلك في كتابه الاستقصائي “أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة”.
ومن المعروف أن نجيب محفوظ قد صام عن كتابة الرواية لمدة خمس سنوات بعد قيام ثورة يوليو 1952 وهذا الفاصل الزمني قد أسماه بـ”سنوات اليأس” أو “سنوات الجفاف”، وهو إلى جانب تحمل مسؤولية أسرته إذ تزوج في عام 1954 وظل الموضوع طي الكتمان إلى أن كشفت عنه مجلة “صباح الخير” بعد عشر سنوات، وقد تكفل برعاية أمه وشقيقته التي توفي زوجها. والحال هذه فلا بد من عمل يوفر له دخلا إضافيا فوجد الحل في كتابة السيناريو، كما كان ينشر القصة القصيرة.
وكلما سئل عن أسباب التوقف عن كتابة الرواية كان رده بأن العهد الجديد يتطلب طريقة أخرى في التفكير وأن مرحلة ما بعد الثورة تستغرق وقتا واسعا قبل أن يفهمها الفنان ويتمكن من استبطان روحها.
نجيب محفوظ خط في الكتابة الروائية يتجدد باستمرار ويستمد زخمه من روافد التاريخ والواقع والفلسفة والعلم
يطوي محمد شعير شريط الزمن عائدا إلى أواخر سبتمبر 1959 مستقصيا العناوين التي تصدرت المطبوعات الصحافية في ذاك الوقت. فأغلبها كانت أخبارا سياسية تغطي أحداثا إقليمية ودولية، هذا إضافة إلى خبر عودة عبدالناصر مع مرافقيه من مدينة رشيد إلى القاهرة. طبعا لم تغب الأخبار الفنية والأدبية في أقسام الجرائد، لعل من أهمها تلحين رياض السنباطي لـ”الحب كده” التي ستتفتح بها أم كلثوم موسمها الغنائي وإصدار ترجمة عربية لرواية “دكتور زيفاجو” بجزئين، غير أن الحدث الأبرز أدبيا هو نشر القسم الأول من رواية “أولاد حارتنا” في الأهرام. إذ سبق أن أعلنت الجريدة قبل أسبوع عن استقبال صفحاتها للرواية متسلسلة.
إذن وقعت الأهرام عقدا مع الكاتب بمقتضاه يكون للصحيفة حق لنشر القصة الجديدة مقابل ألف جنيه. ومن الواضح أن الاحتفاء بعودة محفوظ إلى حلبة الرواية قد بدأ بإجراء حوار عن تجربته الإبداعية ودراسته للفلسفة وحبه للموسيقى، ومن ثم يشير خلال حديثه إلى روايته الجديدة. وبذلك يتضح أن ما حسبه خمسا عجافا لم يكن إلا استراحة وإعادة لترتيب الأوراق على طاولة الكتابة. ويفهم من هذا الموقف أن الروائي لا يمكنه إدارة دفة مشروعه صوب أراض بكر إذا لم يتأمل تجربته مغامرا بتطوير آليات علبته.
رافق عودة محفوظ التنافس بين الصحف والمجلات للفوز بحق النشر لروايته الجديدة. الأمر الذي يؤكد ما يعنيه حضور الكاتب لأي منبر أدبي أو صحافي. استمر نشر حلقات “أولاد حارتنا” ولم يسجل ما ينبئ بكسر الهدوء إلى أن نشرت الحلقة السابعة عشرة إذ بدأ الاحتجاج ضد الرواية وطالبت مؤسسة الأزهر بوقف نشرها، ويصل كل هذا إلى عبدالناصر الذي يستفسر من محمد حسنين هيكل عن السبب لتصاعد أصوات ساخطة وما كان لهيكل إلا أن قدم توضحا لحيثيات الموقف مؤكدا أن الرواية يجب أن يكتمل نشرها حتى آخر كلمة.
يقف عبدالناصر مع قرار الاستمرار. لكن التوتر لا يهدأ واقترح هيكل تشكيل لجنة من الأزهر للبت في الموضوع. وذلك لم يكن إلا مناورة لكسب الوقت ونشر النص بأكمله.
فن الرواية
نجح هيكل في تمرير الرواية الإشكالية وحرص على أن يختم الحلقة الأخيرة بعبارة “انتهت الرواية”، بدوره أراد محفوظ أن يمضي أبعد في الدفاع عن الرواية وطالب بترتيب لقاء بينه وبين الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد أبوزهرة والشيخ أحمد الشرباطي، ونستدل مما يعرضه شعير بأن الفكرة لم تنجح لأن الشيوخ تخلفوا عن الموعد. والأغرب في الأمر أن أغلب العرائض التي وصلت إلى النيابة العامة كانت موقعة بختم الأدباء ضد الرواية.
ينقل محمد شعير عن سكرتير الرئيس عبدالناصر أن الأمر باعتقال نجيب محفوظ قد صدر بعد نشر “أولاد حارتنا” كما تحركت قوة أمنية لإلقاء القبض على الكاتب بعد نشر رواية “ثرثرة فوق النيل” التي أثارت ثائرة عبدالحكيم عامر، غير أن عبدالناصر يحول دون أن يطأ محفوظ عتبة الزنزانة. إذن تحالفت الأطراف الثلاثة عدد من رجال السلطة والأكليروس ومجموعة من الأدباء والمثقفين ضد صاحب “القاهرة الجديدة”، لتستأنف حملة أعنف عندما تم إعلان فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل.
يذكر أن محمد شعير إلى جانب استقصائه لتبعات نشر رواية “أولاد حارتنا” يضمن جانبا من حوارات محفوظ وآرائه بشأن فن الرواية والدين والفلسفة في كتابه التوثيقي وما يجدر بالإشارة هو نظرة محفوظ للعلاقة القائمة بين الرواية والفلسفة، فهو ينفي بأن يكون فيلسوفا أو أضافت روايته شيئا إلى الفلسفة الإنسانية، لأن كل ما يفعله الأديب هو التعبير عما يأخذه من الفلسفة بشكل فني. ويفرد شعير مفصلا من الكتاب لرأي كبار الكتاب عن أدب محفوظ منهم طه حسين الذي يرشح روايات مواطنه للجمهور قائلا: كتب نجيب محفوظ طائفة من القصص أعتبرها أنا أروع من أنتج في الأدب المصري الحديث.
الروائي لا يمكنه إدارة دفة مشروعه صوب أراض بكر إذا لم يتأمل تجربته مغامرا بتطوير آليات علبته
كذلك تنبأ عباس محمود العقاد بفوز محفوظ بنوبل، وكان يراه متفوقا على جون شتاينبك في تصوير شخصياته والإبانة عن الروح الكونية في البيئة المحلية. ويكتب يحيى حقي بأن نجيب محفوظ قد حقق برواية “أولاد حارتنا” ما عجز عنه غيره من رصفائه. لا يكتفي محمد شعير بتغطية أصداء الرواية وشهادات الكتاب بل يرصد الخارطة الجنية لـ”أولاد حارتنا” في “عبث الأقدار” فالأخيرة برأي شعير بروفة لتأليف عمله اللاحق.
راقت لمحفوظ قراءة النص الديني من منظور جمالي. وهو يحتفي بـ”التصوير الفني في القرآن” لسيد قطب مخاطبا إياه بأن العصر من الناحية الجمالية عصر الموسيقى والتصوير والقصة.
تنبسط على فصول كتاب محمد شعير معلومات قيمة عن شخصية نجيب محفوظ وتكوينه الفكري ومحطات فارقة في حياته الأدبية والمناخ الذي نشأ فيه، أكثر من ذلك فإن البعد التوثيقي للحياة الثقافية والحراك الفكري ملمح أساسي في منهج شعير.
وما يخلص إليه المتلقي من متابعة مسيرة محفوظ الإبداعية أنه ليس صِداميا وكان مراقبا لحركة الواقع متأملا الظواهر الاجتماعية ومتفاعلا مع الفكر العالمي، والدليل على ذلك هو المقال الذي يتناول فيه مستقبل فن الرواية معلنا فيه اختلافه مع رائد الرواية الجديدة آلان روب غريبه. وما يمتاز به النص الروائي وفق تحديد محفوظ أنه يخاطب الإنسان كفرد واع مفكر دون أن يتوسل بالسحر على غرار الفنون الجماعية كالسينما والمسرح والدراما، وهذا الرأي يتقاطع مع ما ذهب إليه ماريو بارغاس يوسا بأن النص المقروء يجعل من المتلقي خلاقا في خياله، ولن يكون في ذلك محكوما برؤية خارجية.