الرواية العربية سير ذاتية يتجول أصحابها بنظارات سوداء

أدب السيرة الذاتية في العالم العربي.. حضور التمويه وغياب المصارحة.
الجمعة 2022/01/14
الأديب العربي قد لا يقول الحقيقة حول سيرته (لوحة للفنان مهند عرابي)

هناك إقبال كبير من القراء على السير الذاتية، وخاصة تلك التي كتبها المشاهير من الفنانين والأدباء وحتى السياسيين وغيرهم، ولكن هناك اختلاف بين كتابة المذكرات كسيرة ذاتية وبين السيرة كأدب كاشف لتجليات التكوين الإنساني والمعرفي لصاحبها والواقع الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي عاشه وانعكس على رؤاه وأفكاره، ومن ناحية أخرى يبحث البعض عن فضائحية مّا في السير ما يخول له إصدار أحكام أخلاقية، ما يجعل هذا النمط من الكتابة محل جدل متجدد.

الرواية في العالم العربي تموّه على السيرة الذاتية بشيء من المتخيل، فيكاد المرء يحتار في تصنيفها، ذلك أنها تراوح بين ما يعرف بأدب الاعترافات من جهة، وصناعة الحبكة الروائية من جهة ثانية.

أسباب وجود هذه الخلطة المهجّنة في الرواية العربية، كثيرة ومتنوعة، منها الذاتي المنطلق من التجربة الشخصية والرغبة في سردها وتوثيقها، ومنها الموضوعي المرتبط بالواقع المعيش وما يلامسه من تجارب الآخرين في محاولة لدمج “حيوات” كثيرة في حياة واحدة.

أدب أسماء

الاعتراف والبوح والرغبة في التوثيق والتأريخ هي العناصر الأساسية المكونة لأي تجربة في أدب السيرة الذاتية

الجانب الذاتي حاضر بقوة عبر الولوج إلى عوالم داخلية تتجلى فيها صراعات القيم والإحساس بالاغتراب وسط المجموعة البشرية مع الرغبة الكامنة في الانعتاق مثل أيّ بطل تراجيدي وجد من أيام الإغريق في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد أو حتى وفق النموذج الأوروبي القديم كاعترافات “أوغسطين” التي تستحقّ بجدارة لقب أقدم سيرة ذاتية، وفق مؤرخي هذا الصنف من الأدب.

أما الجانب الموضوعي فيتمثل في تعويم التجربة الشخصية داخل الواقع المعيش من طرف مجموعة بشرية تمثل الفضاء الحيوي الذي تتحرك فيه الشخصيات وتواجه مصائرها.

وهناك ما اصطلح النقاد على تسميته بـ”السيرة الغيرية” وهي السيرة التي يكتبها شخص عن شخص آخر، ويعتمد فيها على توفّر المعلومات بين يديه، أو عن علاقة شخصية ربطت بينه وبين الشخص الذي يكتب عنه، وبذلك تعدّدت مضامين السيرة الذاتية وموضوعاتها، وأصبحت أكثر اتّساعًا في تناول مناحي الحياة، ومثال ذلك سيرة حنا إبراهيم، فهو يكتب ويُؤرخ لحربي 1948 و1967، وقدّم صورة واضحة لليهود آنذاك.

الاعتراف والبوح والرغبة في التوثيق والتأريخ هي العناصر الأساسية المكونة لأيّ تجربة في أدب السيرة الذاتية قديما وحديثا، شرقا أو غربا، وبصرف النظر عن التقييمات النقدية والتصنيفات المدرسية التي لا يمكن أن تنفلت من فخ الأيديولوجيا.

الغنى الدرامي وصدقية البوح هما أبرز ما يشد القارئ إلى هذا الصنف من الأدب، فإما أن ينشد إليه لفرادته وغرائبيته أحيانا، وإما يعرض عنه لسطحيته وعدم أهمية ما يسوقه الكاتب زاعما أنها جديرة بالكتابة والقراءة.

هذا أبرز ما ينبغي أن يميز السيرة الذاتية، بالإضافة إلى المكانة الأدبية والاجتماعية التي تتمتع بها شخصية الكاتب، ذلك أن هذا النوع من الأدب لا يكتبه “الأغرار”، فكلما تقدم السن وتحققت الشهرة، زاد الإقبال على أدب السيرة الذاتية.

وانطلاقا من هذا المعطى، يمكن تفسير موجات الإقبال على كتب السير الذاتية الذي ارتبط بالمشاهير وحدهم، فالأسلوب يعتبر عاملا ثانويا أمام اسم المؤلف.

وهنا يحدث الخلط عادة، بين المذكرات وأدب السيرة الذاتية، وقد يتلاشى المعيار الأخلاقي والتقييم الفني في عملية الإقبال على هذا النوع من المنشورات فتستوي أسماء السياسيين بالمبدعين، كلّ بحسب ما يقدمه من إثارة وغرابة وجرأة في التعرية والبوح.

التطور والخوف

Thumbnail

بالتركيز على أدب السيرة الذاتية في العالم العربي، دون غيره من كتب المذكرات والاعترافات التي يكتبها مشاهير في عوالم الحروب والسياسات، وحتى الفنون، فإن أكثر مَن برعوا في هذا الفن منذ منتصف القرن الماضي إلى الآن كانوا أدباء انكبّوا على تدوين سيرهم في خريف العمر أو قبله بقليل مثل ميخائيل نعيمة في كتابيه “مرداد” و”لقاء”، وطه حسين في كتابه “الأيام”، وتوفيق الحكيم في كتاب “عودة الروح”، وأحمد أمين وغيرهم الكثير.

 وترى الباحثة رهف السيد أنّ كتاب “الأيّام” لطه حسين كان هو النصّ التأسيسيّ والأهمّ والأوّل لكتابة السيرة الذاتية في الأدب المعاصر، والقارئ لهذا الكتاب يلمح أنّ الكاتب قد تحدّث عن طفولته وشبابه، وتميّز في تصوير المعاناة التي واجهها.

أما في العقود الثلاثة الأخيرة فإن أدب السيرة الذاتية قد التحم مع فن الرواية إلى حد التماهي، وذلك لتطور هذا الجنس الأدبي واستقامة عوده على يد روائيين عرب صارت تترجم أعمالهم إلى لغات أجنبية مثل المغربي محمد شكري في رائعته “الخبز الحافي” وما تميزت به من جرأة في البوح والسرد.

وكذلك لا بد من ذكر سير أدبية أخرى ارتقت في نسيجها الروائي وقطعت مع الأساليب الكلاسيكية التي تعتمد على تدوين المذكرات واليوميات دون بناء فني ينوع نحو التجريب ويبحث عن الجديد والمبتكر مستفيدا من نماذج غربية رائدة.

وفي هذا المجال نذكر “سيرة المنتهى” للجزائري واسيني الأعرج، التي يحكي فيها عن تفاصيل حياته منذ بداية مولده ونشأته، إضافة إلى علاقته مع أهله، ثم ينتقل إلى مرحلة الشباب ويذكر اهتمامه بالكتابة وتعمّقه بالأدب، ويشير إلى أساتذته والشخصيات الأدبية التي أثرت في تكوينه الأدبيّ.

Thumbnail

وكذلك المصري جمال الغيطاني في كتابه “التجليات” الذي يظهر فيه استلهامه للتراث الصوفيّ بدءًا من العنوان، مرورًا إلى الاستخدامات اللغويّة، ومواضع التّناص في الرواية لمختلف أئمة المتصوّفة.

ولا ننسى في هذا المجال سيرة “البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا، الذي يستعرض فيها طفولته مثل شريط سينمائي أخاذ. ولم يكتفِ المؤلف بالحديث عن سيرته الذاتية فقط، بل تناول الحديث عن حياة أصدقائه وأقرانه، لتكشف الرواية أيضا عن حياة الفلسطينيّين ومسيرتهم النضالية.

صفوة القول إن هذا النوع من الأدب قد وجد منذ العصور القديمة بدوافع توثيقية وتربوية، لكنه تطور مع تطور فن الرواية وتعقد، إلا أن ما يطغى على السير الذاتية العربية ـ وباستثناءات قليلة ـ هو تضخم الذات وتمجيدها في أحيان كثيرة.

الأمر الآخر الذي تمكن ملاحظته في السيرة الذاتية العربية هو تشتيت الذات وتوزيعها على شخصيات أخرى في السياق السردي، لا لرغبة في البحث عن تقنيات جديدة في الكتابة بل خوفا من الأحكام الأخلاقية السائدة في مجتمع يحاكم كتّابه ويوزع صكوك الغفران لمن يشاء كما حصل مع الكاتبة غادة السمان في معرض حديثها عن علاقتها بالأديب الفلسطيني غسان كنفاني، عبر رسائل العشق المتبادلة بين الاثنين.

ورأى الكثير من المتحجرين في هذا الكتاب، انتقاصا من قيمة كنفاني النضالية، ونوعا من “تمييع القضية الفلسطينية” وهو مرض عضال لا يزال يفتك بالإبداع العربي ضمن السيرة الذاتية في السينما والرواية على وجه الخصوص، وطال الشعر أيضا في بعض قصائد محمود درويش.

13