الروايات المثالية كتابات عبقرية غير معروفة لدى القارئ العربي

عبدالهادي سعدون: على العرب تجاوز "دون كيخوته" ثربانتس.
الثلاثاء 2021/10/19
ثربانتس أحب العربية لكن أغلب أعماله لم تترجم إليها

يشكل مشروع الترجمة الجديد للروائي والمترجم العراقي المقيم في إسبانيا وأستاذ اللغة والأدب العربي في جامعة مدريد عبدالهادي سعدون، والذي يصب في ترجمة وتقديم أعمال الروائي والشاعر والمسرحي الإسباني ميغيل دي ثربانتس، إضافة مهمة للمكتبة العربية، حيث أثرت هذه الأعمال الإبداع الإنساني ولا تزال تؤثر في أجيال الكتابة شرقا وغربا. “العرب” التقت سعدون في حديث حول مشروعه الجديد.

يتهيأ عبدالهادي سعدون لإنجاز مشروع ضخم لإصدارات أعمال الروائي الإسباني ميغيل دي ثربانتس، ستصدر تباعا عن منشورات دار الرافدين ودار تكوين.

ويؤكد سعدون الذي ترجم من الإسبانية إلى العربية أكثر من ثلاثين كتاباً في الشعر والقصة والرواية والنقد لأسماء مهمة في الأدبين الإسباني واللاتيني -مثل بورخيس، لوركا، ماتشادو، ألبرتي وغيرهم- أن “الهدف الأهم من المشروع ترجمة نتاج ثربانتس غير المعروف للقارئ العربي من روايات قصيرة ومسرحيات وأعمال شعرية من نتاج مؤلف الرائعة الروائية ‘دون كيخوته’. كذلك لا ننسى الكتب النقدية الكثيرة التي كتبت عن ثربانتس وحياته وأعماله الأدبية مما لم يصل إلى القارئ العربي ولا نعرف عنه شيئاً، وأعتقد أنه من واجبنا التعريف بها ونقلها إلى العربية، تلك اللغة التي أعجب بها ثربانتس وكال لها المديح مراراً خاصة وأنه قد جعل من العرب والمسلمين أبطالاً لجل أعماله الروائية والمسرحية”.

من أشهر أعمال ثربانتس

الأديب الرائد

يقول سعدون في تصريحات خاصة لـ”العرب” إن “ميغيل دي ثربانتس كتب الروايات المثالية الاثنتي عشرة بعد انتهائه من الجزء الأول من روايته المعروفة عالمياً ‘دون كيخوته’، والتي تُعدّ أول رواية معاصرة، والمؤسِّسة للرواية الأوروبية والعالمية الحديثة في آن واحد. صار من البديهيّ لدى القارئ العربي ذكر ثربانتس مقروناً بشكل دائم برائعته الكبرى ‘الفارس النبيل دون كيخوته دي لا مانتشا’ أو ‘الدون كيخوته’ كما هي معروفة اختصاراً في العالم أجمع”.

ويضيف “لكن مؤلفها الإسباني ميغيل دي ثربانتس قد ترك لنا أعمالاً أدبية لا تقلّ قيمة وثراء عن عمله الشهير كما سنطلع عليه في كتب المشروع التي تصدر تباعاً وبتنوع ما بين القصة والرواية والشعر والمسرح، ليشكّل مع كُتّاب آخرين قمة آداب عصرهم المعروف بالعصر الذهبي لإمبراطورية عظمى هي الإمبراطورية الإسبانية التي امتدّ مجدُها من القرن الخامس عشر حتى بدايات القرن العشرين”.

ويتابع قائلاً “لدينا سجل أدبي رائع من نتاج عبقري الرواية ورائدها، لاسيما تلك الأعمال التي تناول فيها الشخصية العربية المسلمة وجدال النزاع الديني ومسألة الموريسكيين ومحاكم التفتيش والنزاعات الخفية والنظرة إلى الآخر بمنظار مختلف تماماً عن بقية أعمال المرحلة”.

ويوضح سعدون “من المعروف اليوم، وبفضل العثور على وثائق ومستجدات عن حياة ثربانتس وعوالمه الأدبية، أن الكاتب لم يحِد عن الواقع كثيراً، فالعديد من شخوص رواياته الخالدة قد رافقته في حياته وتعرّف عليها من نماذج بشرية. وهو في هذا لم يخرج عن نموذج الكاتب الواقعي في عصره، غير أن تجديده جاء في النمط الروائي نفسه، وفي تعدّد الصور الحكائية، وفي تناول الفرد والمجتمع، وفي لغته التهكمية والتجديدية الغريبة وغير المعروفة لدى كتّاب زمانه. ومن المسائل المهمة التي تجعلنا ندرك أهمية حياة وخبرة الكاتب ومدى إخلاصه للعمل الأدبي، اهتمامه الكبير الذي لم يفارقه في نتاجه الروائي خاصة التركيز على مصائر بشرية وأزمنة تاريخية حساسة، مع قراءة واعية ومحكمة تمنحنا نظرة نقدية متّقدة عن البشر وأهوائهم وهمومهم”.

سعدون يرى أنه من الضرورة التقرب والاهتمام بما كتبه ثربانتس
سعدون يرى أنه من الضرورة التقرب والاهتمام بما كتبه ثربانتس

ويلفت المترجم والكاتب العراقي إلى أن ثربانتس خاض في مهن ومغامرات مختلفة، وشارك في حروب ونزاعات، وعاش تجربة الأسر وامتهن أعمالا متنوعة لسدّ الرمق وإعالة عائلة كان فيها الرجل الوحيد لعدة نساء. كلّ هذا قبل أن يسطّر لنا رائعته “دون كيخوته” تليها “الروايات المثالية”.

ويبين أن الحال لم يختلف كثيراً بعد شهرته، على الأقل في أوروبا آنذاك، إذ عانى في سنواته الأخيرة من الفقر، وتجاهلته المحافل الأدبية بسبب الضغينة والغيرة. وهو في هذا لا يختلف عن أسماء معروفة في الفنّ والأدب، لم تحصل على عوائد شهرتها إلا وهي في القبور.

وفي هذا الشأن يرى سعدون أنه من الضرورة التقرب والاهتمام بما كتبه ثربانتس ليس في رائعته “الدون كيخوته” بل في مجمل النتاجات الأخرى، لنكون على بينة من أثر هذا الأديب العملاق على مسار الآداب قاطبة وتاريخ الأدب الإسباني على وجه الخصوص. من هنا لن يكتفي المشروع بأعمال ثربانتس الروائية فحسب، بل يتعداها ليشمل ما كتب عنه في كل المسائل الجوهرية ومنها علاقته بالعالم العربي الإسلامي من خلال حياته الشخصية أو من خلال أعماله الروائية والمسرحية.

ويتابع “كتب ثربانتس رواياته لتكون شهادة على عصر إمبراطورية عملاقة وصلت حتى أميركا واستمرت في غزواتها وعظمتها حتى نهايات القرن التاسع عشر. في كتاباته جسّد ثربانتس الأبهة والعظمة جنباً إلى جنب مع التحلل الاجتماعي والفساد ومحاكم التفتيش الكنسية البغيضة والقسوة البشرية في ظلّ أزمنة متسارعة ومتصارعة حتى يومنا هذا”.

من الروايات ذات الطابع الواقعي

الروايات المثالية

يرى سعدون أن ثربانتس بلا جدال هو “معاصرنا” الأول، ويقول “لا احتجاج بين النقاد والقراء على ذلك. كتاباته، على وجه الخصوص ‘الدون كيخوته’ و’الروايات المثالية’ هي الكتب الحقيقية التي لا تنتهي بصدورها، بل ببقائها طرية حيّة حتى لو مرت عليها أزمنة طويلة وتغيرت طبائع البشر وأزمنتهم. ومؤلفات ثربانتس هي الكتب الأكثر قراءة والأكثر طباعة وترجمة، ويكاد في هذا يتفوّق حتى على الكتب المقدسة بعدد النسخ ورواجها الشعبي والنقدي، بل إن ثربانتس بالنسبة إلى النقاد وقِطاع واسع من القراء ومن مختلف الجنسيات يُعدّ الكاتب الإنساني الأول والروائي الأعظم في تاريخ الأدب، فكتاباته لا تزال لصيقة بأحلامنا وطموحاتنا، بل وحتى بخساراتنا المتكررة.

ويقر سعدون بأن هذه الروايات المثالية القصيرة التي يقدّمها تباعاً وفي كتب مستقلة الواحد بعد الآخر، كتبها ثربانتس في فترات متباعدة بين الأعوام 1590 – 1612 ونشرها عام 1613 عند ناشره خوان دي كويستا في مطبعته في مدريد بعد النجاح الكبير الذي حظي به الجزء الأول من “الدون كيخوته” (1605) وقبل سنتين من نشر الجزء الثاني (1615).

ويضيف “في مقدمة الروايات المجموعة في كتاب واحد عند صدورها يذكر ثربانتس أنه كتبها ليترك للأجيال ما يعظهم في حياتهم ‘إذ لا تخلو أية رواية من هذه الروايات من نموذج أو مثال أو عِظة أو فائدة أخلاقية‘، ولهذا السبب سماها ‘الروايات المثالية’ أو ‘النموذجية’، فالهدف الأعظم الذي جعله يكتبها هو توقيعه على مثال يساعد المجتمع والقارئ على النظر إلى الأمور نظرة أخرى. وثربانتس على أية حال ينجح في أغلبها بمنحنا تلك العظة والسمات المثالية التي رغب في تنويرنا بها. ولكن ليست كلّ رواياته ممتلئة بهذه الأمثلة والنماذج، بل إن بعضها كما سيرى القارئ لا تمتّ بصلة لهدف ثربانتس المعلن عنه في تقديمه للروايات، ولعله هنا أيضاً قد تقصّد الخروج عن النمطية المثالية حتى لا يتشبع بها القارئ ويميل عنها لهذا السبب أو ذاك”.

ويشير سعدون إلى أن “الشيء الأهم الآخر الذي يطبع متن الروايات المثالية -وهو ما ذكره المؤلف في المقدمة العامة أيضاً- هو أنه أول من كتب هذا النمط من الروايات القصصية باللغة الإسبانية، وهذا تأكيد موثّق لا غبار عليه؛ إذ أن جلّ الروايات المعروفة بالروايات القصيرة أو النوفيلا المستوردة والمتأثرة بالنموذج الإيطالي السابق للنموذج الإسباني، التي نُشِر أغلبها بالإسبانية سابقاً، إما عبارة عن محاكاة فجّة لرواية النوفيلا الإيطالية أو ترجمة لها من الإيطالية إلى الإسبانية دون أية تغييرات أو تنويعات دالّة. ومن هنا يُحسب لثربانتس قصب السبق في هذا المضمار، بل ويمكن أن نزيد عليها أنه قد أدخل الكثير من عناصر الواقعية المحلية الإسبانية ومعضلاتها وسماتها وطبيعة بشرها ومجتمعها، والتي زخرت بها الحياة في إسبانيا، لتكون المسرح الحقيقي والأساسي لمعظم رواياته المثالية”.

ويوضح أنه من المعتاد بين نقاد أعمال ثربانتس والأدب الإسباني أن يقسّموا رواياته المثالية إلى قسمين رئيسيين: الروايات ذات الصِبغة المثالية، والأخرى ذات الصبغة الواقعية، مع تداخل البعض مع عناصر المجموعة الأخرى دون عينة كبرى لتصنيفها ضمن هذه المجموعة أو تلك.

ويضيف “المثالية منها هي الأقرب إلى النموذج الإيطالي والتي تتميّز بمحتواها الرومانسي العاطفي وشجن علاقات الحبّ والمحبّين وهم شخوص نمطية لا تتصاعد وتيرة تطورها النفسي، وتكاد تكون أكثر بعداً عن محيط مجتمعها، وتتميز بأسلوب وإن كان رصينا إلا أنه يفتقر إلى الحيوية المطبوع بها أسلوب ثربانتس المعتاد. كما يعتمد سياقها العام على المصادفات الغريبة والنهايات غير المتوقعة وإن كانت لا تفتقر إلى روح ثربانتس الحكائية. تدخل في هذا القسم الأول الروايات الخمس التالية: العاشق المتحرر، الفتاتان، الإسبانية الإنجليزية، السيدة كورنيليا، قوة الدم”.

روايات ثربانتس المترجمة بمجملها تدخل ضمن حيّز الروايات القصيرة أو القصص الطويلة، وجلها مجهولة لدى القراء العرب

أما القسم الثاني فيضمّ، وفق سعدون، الروايات ذات الطابع الواقعي المتمثل في الشخوص والمناخات الوصفية الحيّة بوازع نقدي متعدّد الأصوات في أحيان كثيرة. ويتميز أسلوبها ببساطة الحبكة والثيمة والإكثار من عروض المشاهدات اليومية المباشرة بلغة قوية وسريعة ومرهفة. وهي الروايات السبع التالية: رينكونيته وكورتاديّو، الرجل الزجاجيّ، الغجرية، غيور أكسترامادورا، الخادمة الشهيرة، الزواج الخادع، حديث كلبين.

ويؤكد سعدون أن قراءة هذه الروايات مجتمعة لا يمنحنا ذلك التصوّر الأول بشأن تقسيمها حسب صبغتها، لأنه ستعترضنا معالم وملامح متعددة ومشتركة بين روايات الصنف الأول وروايات الصنف الثاني، وهو ما دفع بالعديد من النقاد إلى وضعها في فئات ثلاث بدلاً من فئتين اثنتين، ولكن حتى هذا التصنيف المتشعب يجعلنا بعيدين عن مغزى وهدف ورغبة ثربانتس نفسه في كتابة هذه الروايات القصيرة.

 الروايات بمجملها، كما يرى مترجمها، تدخل ضمن حيّز الروايات القصيرة أو القصص الطويلة، والبعض منها أقصر من غيرها، وتتميز رواية “الغجرية” بكونها الأطول، بينما تتداخل روايتا “حديث كلبين” و”الزواج الخادع” بكونهما قصتين في رواية واحدة، أي الواحدة منهما بمثابة مدخل روائي مطول للشروع في قراءة الرواية التالية، مما دفع أغلب الطبعات الإسبانية إلى مزجهما في كتاب واحد أو عدِّهما رواية واحدة بعنوان موحد أو عنوانين متشابكين.

ويكشف سعدون أنه عبر هذه الروايات التي تصدر تباعاً كلّ واحدة على حدة، إنما نترجمها ونقدمها للقارئ العربي كعيّنة مهمة من أعمال ثربانتس صاحب رائعة “الدون كيخوته”، وهي روايات لا تقلّ روعة عن قيمة العمل الأكبر، بل تشترك مع أعماله الأخرى في الهمّ الإنساني نفسه والقدرة الخارقة للقلم الروائي على تطويع الأحداث اليومية والتاريخية لتلك الحقبة إلى قصص ومسرحيات وروايات تكشف الجوانب الخفية للنفس البشرية في بحثها الدائم عن الهدف الأسمى للحياة واحتمالاتها المتعددة. والروايات صدرت حتى اليوم أربع منها وهي: رنكونيته وكورتاديّو، الرجل الزجاجي، الخادمة الشهيرة والعجوز الغيور، على أمل أن تكتمل في المستقبل القريب مع أعمال أخرى منتقاة وضرورية لفهم عوالم الكاتب وزمنه.

14