الروائي التونسي صلاح البرقاوي لـ"العرب": الرواية تشبه حبل الغسيل

تبقى الرواية أكثر الأجناس الأدبية قدرة على خلق ذلك المزيج من كل الفنون الأخرى وبالتالي خلق عمل قوي ونافذ يمكنه خلق تأثير أكبر في العاطفة والأفكار، كثيرة هي الروايات التي انطلقت من فكرة وألبستها الحكاية، مثل "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل أو "حفة الكائن التي لا تحتمل" وكل روايات ميلان كونديرا تقريبا، وإيمانا بأن الرواية فكرة في الأساس قدم الكاتب التونسي صلاح البرقاوي عمله الجديد "يخاف الأفراس".
نظم مركز الفنون الدرامية والركحية بمحافظة سليانة مساء الأربعاء حلقة نقاش حول الرواية الجديدة للكاتب التونسي صلاح البرقاوي "يخاف الأفراس" بحضور الكاتب.
وتفاعل البرقاوي مع أسئلة قراء الرواية من الحضور النوعي الذي ناقش كل منهم العمل من زاويته، خاصة وأنها رواية مختلفة عما يكتب في الأدب التونسي، سواء من ناحية الجرأة في الطرح أو الموضوع الذي لم يسبق طرحه بتلك الطريقة.
تتابع رواية "يخاف الأفراس"، الصادرة عن دار أركاديا للنشر بتونس، حكاية بطلها هادي بازينة، القادم من الدشرة إلى العاصمة تونس للدراسة في الجامعة، وحيث سينتهي به المطاف موظفا ويدخل عالم المدينة من أبواب لم نعهدها.
الرواية جريئة بشكل قد يزعج البعض، إذ اعتبرها المخرج المسرحي صالح الفالح مدير مركز الفنون الركحية والدرامية بسليانة، رواية تقلق قارئها وتخرج به من منطقة الراحة التي اعتادها.
سيرة هادي إن شئنا ليست سيرة ذاتية، بل هي سيرة تونس المهمشة أو المخفية تحت ملابس وتواريخ كل منا، يستعيد تاريخا كاملا من الاستقلال مرورا بفترة حكم الرئيسين التونسيين الحبيب بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي، بشكل لا يركز على التاريخ في حد ذاته وإنما يضعه في خلفية الأحاديث والاحداث، طريقة ذكية من الكاتب للتأريخ بشكل مغاير تماما، من خلال أشخاص سقطوا عمدا من غربال المؤرخين والتاريخ الرسمي.
تاريخ الجسد
إننا بصدد تاريخ الدشرة والعلاقات السرية التي تحاك فيها، ذلك المكان الذي بقي يعاني من النظرة النمطية التي تحط منه ومن أهله، حتى المدينة نفسها تعاني وفق ما سنرى مع هادي تلك النظرة النمطية، إذ يحسبها من ينزح إليها مجالا حرا مفتوحا للأفكار والتحرر والإنجاز والانخراط في حياة أقل رقابة، بينما وإن تخلص ابن أو ابنة الريف من رقابة العائلات لأفكاره وأعضائه، فإنه يدخل رقابة أكبر هي رقابة البوليس.
لا يحاكم البرقاوي الزمن أو الحقبة التاريخية التي يستحضرها في الخلفية، وإنما يكشفها عارية كما هي، وصولا إلى التعرية الحقيقية لأسباب العطب التي حلت بمجتمع كامل، أو تحديدها بما يسمى “البرجوازية الصغيرة”، طبقة كاملة من المجتمع التونسي لها أعطاب كبيرة في االنفس والأفكار والجسد، سلسلة يكشفها الكاتب ببراعة من خلال عطب يلم ببطله هادي، بعد زواجه من المرأة التي أحبها ولاحقها بخياله سنين قبل أن تتحقق أمامه الحب الذي تحول من حلم إلى كابوس.
الكابوس هو حالة العجز التي يسقط فيها هادي، ويدخل في مرحلة علاج مع طبيبه النفسي، وهنا يذهب بنا إلى مكاشفة جريئة لتجربة الجسد في مجتمعنا، تجارب مسكوت عنها غالبا، خاصة في الصبا والمراهقة، أحداث قد ينكرها الكثيرون في الواقع، لكنها الحقائق التي نجده لإخفائها بالصمت والتجاهل والعطور.
حقائق صادمة؛ ممارسة جنس مع حيوانات أو تجريب الأنوثة في الأطفال (كما فعلت سالمة مع هادي، أو بية الخادمة مع ابنة صاحب البيت) أو تجريب الذكورة في صبي الكتاب مصطفى، والطرق التي قادت عائشة لامتهان جسدها، أو بية إلى عالم الدعارة، حيث بات يتاجر بجسدها البوليس الناصر روقارة، وهو مثال على فئة من الحاقدين والشخصيات القبيحة التي صنعها المجتمع.
◙ تعرية الجسد في الرواية ماهي إلا تعرية لزيف الأفكار، وهو ما تعاني منه النخبة التونسية منذ عقود
لسنا بصدد محاكمة للجسد، بل الذهاب إلى أعماقه كان بدافع السؤال، ومحاولة كشف الخلل وأسبابه، وفي النهاية الأجساد المختلة التي نشأت في بيئة لا تقول الحب ولكنها تعلن الكراهية، بيئة تراقب ما بين الفخذين ولا تحفل بما في الصدور من ألم، بيئة تنسج الحكايات حول أعضاء الصبايا والفتيان، ولا تعطيهم مفاتيح الحب أو التفكير، بل تضعهم في قوالب جاهزة، يمكننا فهمها مثلا من علاقتنا ككل بالعذرية وقضايا الشرف. كل هذا خلق أجسادا معطوبة وبالتالي لا وعيا مضطربا لن تنجح الأفكار الحداثية التي تتبناها طبقة كاملة، لكنها في الحقيقة لا تنفذ إلى العمق.
إن تعرية الجسد في الرواية ماهي إلا تعرية لزيف الأفكار، وهو ما تعاني منه النخبة التونسية منذ عقود، إذ ما بين الفكرة والواقع فرق كبير، وما انقلاب الأغلبية من حالة النضال إلى الانتهازية بين الجامعة وخارجها بعد التخرج إلا دلالة واضحة على أن ما تحمله الأغلبية من أفكار ما هو إلا قشور، وهذا مكمن الداء في المجتمع.
الرواية بنيت خطية لكنها مع تقنيات الفلاش باك أو الاستباق كسرت الرتابة، وخلقت جوا مشوقا، لكن لم تكن الحكاية ما يهم في النهاية بشكل أساسي بل الفكرة التي استحوذت على الخلفية. فكرة الجسد وتاريخه.
يقول البرقاوي لـ"العرب" "كان مطروحا علي من الأول أن حسن تقبل روايتي الأولى ‘كازما‘ عند القراء وضع أمامي تحديا ماذا سأكتب في المرة القادمة، تخوفت من كتابة عمل أقل مستوى من روايتي السابقة، كتبت ‘كازما‘ في ستة أشهر، وكان علي أن أبقى أربع سنوات لكتابة روايتي الثانية ‘يخاف الأفراس‘ لأن هاجسي هو كتابة عمل مختلف، وفي النهاية أحسن رواية لي مازلت لم أكتبها بعد".
الرواية أفكار
ويضيف الكاتب “ذهبت إلى الروايتين من طريقين مختلفين تماما، ‘كازما‘ كانت عندي بداية الحكاية موجودة من خلال واقعنا وظاهرة الإرهاب، وكان علي أن ألبسها الأفكار التي أحملها حول هذه الظاهرة، واعتقادي أن آفاقها مغلقة وهي ملف فتح وسيغلق، صحيح أنها ظاهرة دامية وموجعة كانت في مجتمعنا، لكنها ليست أخطر مما نتعرض له من ظواهر أخرى في المجتمع التونسي مثل ظاهرة الفساد الذي ينخر هذا البلد".
ويتابع البرقاوي "في روايتي الثانية كنت طارحا على نفسي أمرا آخر، كنت أطمح للكتابة عن الجسد، وكان لزاما علي أن أصنع له حكاية واستفدت من الكثيرين ممن أخذت آراءهم في العمل".
ويشدد الكاتب "عندي تمثلي للرواية، تمثل خاص أني أشبهها بحبل الغسيل الذي تضع عليه الملابس من مختلف الأشكال والمقاسات، إذا كثرت الأفكار على حبل الغسيل يسقط، يصبح مقالا ربما أكثر من رواية، وإذا كان الحبل عاريا من الأفكار يصبح مجرد خرافة فارغة. الرواية مبنية في رأيي على التوازن بين الأفكار والحكاية، والحكاية في النهاية هي حيلة نستعملها لإيصال بعض الأفكار من دون أن نثقل الناس بتحويل الرواية إلى مقالة رأي".
ويؤكد البرقاوي أنه بإمكان الجميع كتابة رواية بشرط أن تتوفر لهم الظروف المناسبة والإرادة، لكنه يستدرك “لا أنصح أحدا ليس لديه ما يقوله أن يكتب، فالكتابة رسالة، رغم أن الكتاب لا يمكنهم تغيير العالم لكن يمكنهم المساهمة في تغيير الأفكار التي يوصلونها للناس".
ويرى أن كل القراءات مثرية لروايته "يخاف الأفراس" التي يمكن أن يراها كل قارئ من زاويته، وأحيانا القراءات تثير انتباهه لأشياء أغفلها ففي النهاية الكتابة يتدخل فيها اللاوعي أيضا.
ويقول الكاتب حول حضور المكان الدشرة تحديدا في عمليه الروائيين ولو بشكل مختلف "الدشرة حاضرة لأنني أحبها وأنا ابن دشرة التي أمضيت فيها طفولتي، ربما يكون عملي القادم أيضا منطلقا من الدشرة، في إطار ثلاثية".