الرفض الفقهي لنسبة الأبناء إلى آبائهم في العلاقة غير المشروعة عقاب للأمهات

نسف الرؤى المتشددة حول نسب الأطفال خارج إطار الزواج يحتاج إلى إرادة سياسية.
الأربعاء 2021/09/29
الابن يحتاج والده حتى يكون سويا

يتمسك رجال المؤسسة الدينية في أغلب الدول العربية برؤى فقهية متشددة تنسب الطفل الناتج عن العلاقة غير الشرعية إلى أمه وليس إلى أبيه ولو كان الرجل نفسه معترفا بنسب الابن إليه، ما يضاعف من معاناة المرأة وابنها ويضعهما في مواجهة مع المجتمع، وهو ما يدعو إلى وعي مجتمعي وإرادة سياسية لمعالجة مثل هذه القضايا بفكر مدني معاصر لا بمرجعيات تاريخية.

القاهرة – المتابع للإجماع الفقهي في كثير من الدول العربية حول نسبة الأطفال الناتجين عن العلاقة غير الشرعية يكتشف أن هناك رفضا شبه عام بين رجال الفتوى وعلماء المؤسسة الدينية على تسمية الأبناء خارج إطار الزواج لآبائهم والتمسك بأن يكونوا تابعين للأمهات فقط، باعتبار أن طريقة الإنجاب غير مشروعة.

ويبرر الرأي الديني، أو اجتهاد رجال الفقه أنفسهم بمعنى أدق، أن النسب الأبوي للأبناء يكون وفق علاقة شرعية وعقد زواج صحيح بشهود ومأذون، ودون ذلك يكون الطفل منتسبا إلى الأم وحدها، ما يزيد من معاناتها وابنها ويضعهما في مواجهة مع المجتمع الذي دائما ما يبادلهما المعاملة بالوصمة والنظرة الدونية والتنمر والعنصرية.

وتتمسك جهات الفتوى في أغلب الدول العربية بحديث نبوي منقول، مفاده “الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر”، ما يعني وفق وجهات نظرهم أن الابن الذي نتج عن علاقة خارج مؤسسة الزواج يكون لأمه وليس لأبيه، ولو كان الرجل نفسه اعترف بنسب الابن إليه وطلب أن يسميه باسمه ويتزوج الأم بطريقة شرعية.

وتعرضت دار الإفتاء المصرية لسؤال عبر منصة الفتاوى الإلكترونية قبل أيام، قال فيه الشاب السائل إنه أقام علاقة غير شرعية مع فتاة وحملت منه ويريد أن يتزوجها، فهل يكون الابن حاملا اسمه بعد الزواج الشرعي أم لا، فجاء الرد بأن إصلاح الخطأ بالزواج من التي زنا بها لا يعني تسمية الطفل لأبيه، بل يظل منتسبا إلى أمه.

وإذا كان رأي جهة الفتوى الرسمية صادما إلى حد بعيد، فالمعضلة أنه يقود إلى هدم علاقة أسرية قبل أن تبدأ، فالشاب الذي طرح السؤال وغيره الكثير من الذين لديهم نفس الظروف يرغبون في إصلاح الخطأ الذي ارتكبوه بإقامة علاقة غير شرعية، ويريدون الزواج الرسمي ونسب الأبناء إليهم حتى صدر التحريم الديني.

مقياس التسامح

عبير سليمان: لا بديل عن معالجة قضايا النسب وفق قناعات اجتماعية معاصرة
عبير سليمان: لا بديل عن معالجة قضايا النسب وفق قناعات اجتماعية معاصرة

يرى حقوقيون أن الرفض الفقهي لنسب أبناء الزنا إلى آبائهم يتناقض مع كل معايير التسامح والمودة ولم الشمل التي دعا إليها الإسلام، فعلماء الدين المعاصرون ما زالوا يتمسكون برؤى قديمة متطرفة كان لها زمانها وظروفها، فإذا كان الأب يطلب أن يحمل ابنه اسمه فماذا يضير رجال الدين في ذلك طالما أنه أقر واعترف ولم ينكر النسب أو يتخلى عن شريكته في العلاقة؟

المشكلة عندما تستند أحكام القضاء في شأن تسمية أبناء العلاقات غير الشرعية إلى رؤى فقهية متشددة، كما جرى قبل شهور حيث برأت محكمة مصرية شابا من تهمة اغتصاب فتاة والإنجاب منها ونسبت الطفلة إلى الأم بدعوى اقتناعها بأن العلاقة الجنسية تمت بالتراضي، بالتالي لا يجوز شرعا انتساب الصغيرة إلى أبيها.

وليست مصر وحدها التي تصدر فيها مثل هذه الأحكام، فقد سبق وصدرت أحكام مماثلة في دول عربية أخرى، آخرها ما أقرته محكمة النقض بالمغرب بإلغاء الاعتماد على تحليل الحمض النووي لإثبات نسب طفلة ولدت خارج إطار الزواج واستندت إلى الرأي الفقهي بأن تقطع نسب الطفلة مع أبيها، وأقرت بأنها بالنسبة إليه أجنبية لأنها ابنة أمها فقط.

وحسب وجهة نظر الفقهاء، فالابنة التي هي من صلب الأب ولم تُنتسب إليه غريبة عنه، ما يطرح تساؤلا منطقيا: هل بذلك يجوز له الزواج منها مستقبلا؟

الإجابة وفق قناعات بعض المتشددين، وحساباتهم الشخصية، يجوز طالما أنها أجنبية بالنسبة إليه، وهو ما لا يقبله عقل ولا منطق ولا دين بالطبع بأن يتزوج الأب من ابنته لمجرد أنها نتجت عن علاقة غير شرعية.

مشكلة بعض رجال الدين أنهم يبررون موقفهم برفض تسمية أبناء العلاقات الجنسية غير الشرعية لآبائهم لمنع اختلاط الأنساب بين الناس، مع أنهم لو أعملوا العقل والمنطق لوجدوا أن جمودهم الفكري هو السبب الأول في إمكانية حدوث هذا الاختلاط.

ماذا لو تمت تسمية الابنة للأم، ثم تزوج الرجل وأنجب ولدا من امرأة ثانية، وبعد سنوات ارتبط الولد والابنة وتزوجا باعتبار أنهما من أبوين مختلفين، أليس ذلك من صميم اختلاط الأنساب، بأن تزوج ابن من شقيقته؟

أزمة بعض المجتمعات العربية أنها تستسلم لرؤى الفقهاء وعلماء الدين في شأن مصير أبناء العلاقات غير المشروعة ولم تتمرد عليها وتعاملت معها باعتبارها مقدسا، مع أنها خاضعة لتفسيرات قديمة وأحاديث منقولة ولم يتجه الناس إلى إعمال العقل والتخلي عن حجج متشددين أقنعوا غيرهم بروايات دينية بعيدة عن كل ما هو إنساني.

مبررات واهية

يجب إلزام الرجل بعدم التخلي عن شريكته في العلاقة
يجب إلزام الرجل بعدم التخلي عن شريكته في العلاقة

عندما تدافع جهات الفتوى عن موقفها بخصوص هذه القضية تكون مبرراتها غير منطقية، كأن تقول دار الإفتاء المصرية إن الفقهاء اتفقوا على أن ولد الزنا يثبت نسبه من أمه التي ولدته، لأن الأمومة علاقة طبيعية بخلاف الأبوة فهي علاقة شرعية، فلا تثبت أبوة الزاني لمن تخلق من ماء زناه.

وتغفل هذه النوعية من الفتاوى البعد الإنساني والاجتماعي لقضية نسب الأطفال الذين نتجوا عن علاقات غير شرعية، فهناك أزمات كثيرة تعاني منها الأم والابن مستقبلا، فالأخير يوصم باللقيط وهي توصم بالزانية ما يلحق بهما الأذى والتربص والاستهداف، مع أن ذلك يتناقض كليا مع الدين الإسلامي.

ورأت عبير سليمان الناشطة في حقوق المرأة والطفل بالقاهرة أن الرؤى الدينية المرتبطة بنسب أطفال العلاقات غير المشروعة غالبا ما تكون ضيقة ومنغلقة وتخاطب العصور السابقة، وحتى لو كانت صحيحة فهي تخص زمانها ومكانها وسياقها المجتمعي، ولا يمكن أن يتم إغفال العلم مقابل التمسك بالفقه أو تتعامل المجتمعات المعاصرة بنفس الطريقة التي كانت مطبقة قبل قرون.

وأضافت سليمان لـ”العرب” أنه لا بديل عن معالجة قضايا النسب وفق قناعات مدنية اجتماعية مدنية معاصرة، لا باجتهادات قديمة لها انعكاسات سلبية على الناس، فليس معقولا أن تتحمل المرأة وحدها ذنب علاقة تمت بالتشارك مع الرجل، وليس منطقيا أن يعاقب الأبناء على فعل لم يشاركوا فيه أو يخططوا له، ويتم حرمانهم من آبائهم لمجرد أن رجال الفتوى يريدون ذلك.

عبدالله النجار: من حق الأب أن ينتسب ابنه إليه لو كان من علاقة غير مشروعة
عبدالله النجار: من حق الأب أن ينتسب ابنه إليه لو كان من علاقة غير مشروعة

وقالت “رفض تسمية أبناء العلاقة غير الشرعية للآباء يتناقض مع الإنسانية التي كرسها الإسلام، فذلك يؤسس لرفض الرجل الارتباط من المرأة التي ارتضت بالعلاقة معه باعتبار أن ما كان سيجمعهما هو الابن، كما أن الأنثى تتعرض للأذى وإلحاق العار بها، ثم لماذا يُنسب الطفل إلى الأم وحدها مع أن الرجل شريك معها في الفعل؟”.

وأثبتت بعض التجارب العربية أن نسف الرؤى الدينية بشأن نسب أطفال المولودين خارج إطار الزواج ليس بالأمر الصعب، لكنه يتطلب إرادة مجتمعية وفهما لمستجدات العصر، وقبل كل ذلك جرأة وشجاعة وإرادة سياسية من صانعي القرار، وهي الدوافع التي توافرت وشجعت دولة الإمارات العربية المتحدة على أن تخطو خطوة جادة في هذا المسار.

وأصدرت الإمارات في أبريل الماضي بيانا رسميا أعلنت فيه عن تغيير سياستها المتعلقة بالأطفال المولودين خارج إطار الزواج، وصار يُسمح للآباء غير المتزوجين بالحصول على استمارة تتيح التقدّم بطلب للحصول على شهادة ميلاد للطفل خارج إطار الزواج بعد أن كانت القوانين تنص على عدم السماح لهم بذلك، لكن التغيير جاء حفاظا على حقوق الأطفال.

ولم يمتعض المجتمع أو يتذمر، بحكم الوعي وتقديم الإنسانية على أي شيء آخر، بعكس دول أخرى تقدس الفتوى مهما كانت متعارضة مع سماحة الدين وإنسانيته، بدليل أنه في العراق صدرت فتاوى متشددة غير رسمية لا تجيز الزواج من الأطفال المولودين خارج إطار الزواج، وبعض المتطرفين في اليمن حكم عليهم بأنهم لن يدخلوا الجنة.

وتعكس هذه الفتاوى التي تدعمها رؤى فقهية صادرة عن مؤسسات دينية رسمية كيف أصبحت نظرة بعض المجتمعات العربية إلى أبناء العلاقات غير الشرعية، ولأي درجة وصل التنمر والاستهداف ضدهم طوال الوقت، لكن الواضح أن قتامة المشهد تزداد في الدول التي تستند إلى الفتوى في كل ما يخص المسائل الأسرية.

ويرى متخصصون في العلاقات الاجتماعية أن الأخذ بوجهة نظر الفقهاء في حل إشكالية نسب الأبناء المولودين خارج الزواج الرسمي تتسبب في انتكاسات كثيرة لهم، على مستوى الحق في التعليم والرعاية الصحية، فكيف يعيش طفل منتسب إلى أمه في مجتمع مريض بالتمييز ولا تُسن فيه تشريعات تحمي هؤلاء من الوصمة والتنمر؟

أطفال الشوارع

أغلب مشاهد أطفال الشوارع سببه الجمود الفكري لرجال الدين
أغلب مشاهد أطفال الشوارع سببه الجمود الفكري لرجال الدين

لم يدرك رجال الدين أن أغلب مشاهد إلقاء الأطفال حديثي الولادة أمام المساجد وفي الميادين العامة وعلى أرصفة الشوارع كان السبب فيها جمودهم الفكري الذي حرّم على الأب أن ينتسب ابنه إليه، واقتصروا النسب على الأم وحدها، ولأن نظرة المجتمع لها سوف تكون قاسية لم تجد أزمة في أن تموت الإنسانية بداخلها وتلقي بابنها في عرض الطريق.

وتتعامل هذه الأم بمنطق أن المجتمع سوف يوصمها والقانون لن ينصفها، طالما أن الابن ناتج عن علاقة غير شرعية، ولأنها تنظر إلى المستقبل وما سوف تعانيه من عبء نفسي وأسري عليها يبدو الحل في التخلص منه، حتى صارت مؤسسات الرعاية الاجتماعية في الكثير من المجتمعات العربية تعج بأطفال مجهولي النسب، غالبا ما يتم العثور عليهم في الشوارع.

إذا سألت بعضا من رجال الفقه عن الذنب الذي اقترفه هذا الصغير حتى يواجه المصير المجهول ويعيش محروما من والديه، أو على الأقل والده الذي أقر واعترف بالأبوة، لا تجد ردا مقنعا ولا إنسانيا، وإذا واجهتهم بأن الدين لا يرضى بأن يكون بعيدا عن أبيه وينتسب لأمه فقط، مع أن الأب على قيد الحياة ويرغب في أن يكون حاملا لاسمه، لا تجد أيضا الرد العقلاني.

بعض التجارب العربية أثبتت أن نسف الرؤى الدينية بشأن نسب الأطفال المولودين خارج إطار الزواج ليس بالأمر الصعب

وطرح عبدالله النجار عضو مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة حلا لهذه الإشكالية، بأنه من حق الأب أن ينتسب ابنه إليه لو كان من علاقة غير مشروعة شريطة ألا يصرح بأنه ابن زنا، لأن القضاء في المجتمعات الإسلامية يأخذ برأي الفقهاء، وعلى الشخصين (الرجل والمرأة)، أن يتفقا على تسجيل الابن دون إعلان شكل العلاقة التي تمت بينهما قبل الإنجاب.

وقال النجار لـ”العرب” إن نسب الطفل إلى الأم ليس ظلما لها، بل لأنها ستكون أكثر عطفا وحنانا عليه من الأب الذي قد يكون قاسيا ولا يجب أن تتعامل مع طفلها باعتباره وصمة عار، بل تنظر إلى الجانب الإيجابي بأنه سيكون سندا لها إذا تخلى عنها الشريك (الرجل)، وهذا سائد في الكثير من المجتمعات بأن تكون الأم ضحية لعلاقة شيطانية.

وبغض النظر عن مبررات ودوافع جهات الفتوى فرفض نسب الأبناء إلى الآباء لمجرد أنهم نتجوا عن علاقة غير شرعية يحمل عقوبة دينية ومجتمعية للأم نفسها، لأنه ليس من العدل أن تتحمل مشقة الحمل والولادة والتربية والإنفاق والرعاية والتعليم وحدها، مع أن شريكها في العلاقة الجسدية صار حرا طليقا لا يتحمل هذه المسؤوليات.

ومهما تقبلت الأم وارتضت بحكم رجال الدين والمجتمع، فالمعضلة ستكون في الابن الذي يتربى بعيدا عن والده، وغالبا لن يكون سويا، لأنه في نظر من حوله “لقيط”، وقد يتحول إلى مجرم يقتص لنفسه من المحيطين به، لأنهم في صغره حملوه ذنبا لم يرتكبه، ما يفرض على الحكومات العربية سن تشريعات تتلاءم مع الواقع المجتمعي، ولا تستند إلى مرجعيات تاريخية ولو كانت ذات صبغة دينية.

13