الرسائل "المستودع المقدّس" للأسرار

قراءة التاريخ من أسفل للمشاهير والأعلام.
الأحد 2021/03/28
الرسائل تكشف خفايا خاصة وعامة (لوحة للفنان آلان فالتيس)

لا خلاف على الأهمية التاريخية والأدبية للرسائل التي يكتبها المشاهير من السياسيين والأدباء والفنانين، فصندوق الرسائل كما قال شيشرون “مستودع مُقدّس، يضع فيه الناس أسرارهم وهم واثقون من أنهم قد أَلْقُوا بها في مكان أمين، وأن ما حوته من الأسرار لن يطّلع عليه إلا المـُرسَلة إليهم”، وهي أيضًا  في ذات الوقت “مرآة القلب الصّادقة التي ينعكس عليها ما يدور بخُلْد الإنسان وما يخفِيه في قرارة نفسه”، وهي وثائق هامة في حياة الكتاب والفلاسفة والسياسيين.

الرسائل أو بتعبير المؤرخ البريطاني سيمون سيباغ مونتيفيوري “التاريخ المكتوب”، تُعتبر بمثابة “وثيقة حيّة تُسجّل الحياة العقليّة لكاتبها، وتُعين على تحليل غرائزه وعواطفه، والأُسس الحقيقيّة التي تقوم عليها أعماله”. علاوة على أنها تبرز أدوارًا جديدة ومتناقضة لكاتبها، فالفارس الشجاع في ميدان المعركة، ضعيف جبان في ميدان الحب والعشق، والشخصية الجادة في حياتها العمليّة، مرحة ومتحرّرة من القيود والرسميّات في رسائل الهيام والعشق.

ونظرًا إلى هذه الأهمية – التاريخيّة والأدبيّة – وُصِفت الرسائل بأن لها “أروحًا، وإنها لتتكلم، وإن فيها من القوة ما يُعبّر عن نشوة القلب، وليس ينقصها شيء من حرارة العواطف، وإنها لتبعثها في القلب كما يبعثها الكاتب نفسه، وفيها كل ما للكلام من رقة وحنو، وقد يكون فيها أحيانًا من الجرأة على التعبير ما لا يستطيعه الكلام”؛ فالرّسائل الشخصية – ببوحها وفضفضتها اللامحدوديْن – تكشف الأبعاد المُضمرة للشخصيات، وكذلك السياقات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي ارتبطت بالزمن المستعاد (أو الزمن المفقود – الزمن الحُلم).

كما أنها تُقدّم المراحل الهامة التي ساهمت في نحت مسار التكوين النفسيّ للشخصيّة، وفي سبيل ذلك تسعى – دون قصد بالطبع – لأن تُقدّم صورة لتطورات الشخصيّة، وتحولاتها من الحبّ إلى الكراهية، والقوة إلى الضعف، والإقبال على الحياة إلى الانسحاب منها، والمرح إلى الاكتئاب.

التاريخ المكتوب

اعتنى مؤرخو الأدب ونقاده – قديمًا وحديثًا – بالرسائل على اختلاف كُتّابها؛ سياسيين، أدباء، فنانين، قادة عسكريين، إلخ.. فجمعوا ما وصلت إليهم أيديهم، في كتابات منفردة تارة أو في كتابات مجمّعة تارة ثانية، ومن هذه الكتب التي احتوت على العديد من رسائل المشاهير كتاب “أشهر الرسائل العالمية من أقدم الأزمنة إلى الوقت الحاضر”، والذي ترجمه محمد بدران في جزأين، وقد ضمّ 128 رسالة مُنتخبة لأشهر الرموز التاريخيّة منذ قبل الميلاد حتى القرن العشرين.

 ويقدّم المؤلف في كتابه لنا تمثيلات مختلفة لأشهر الرسائل، دون أن يقصرها على نوع محدد بل شملت ما يصف العواطف من حُبٍّ واستعطاف، وما يُعنى بالحادثات الهامّة التي غيّرت مجرى التاريخ، أو بالشخصيات البارزة التي كان لها أعظم الأثر في هذا العالم؛ ملوكًا كان أصحابها أو فلاسفة أو رجالَ دينٍ، رجالاً أو نساءً، شيبًا أو شبابًا.

وجوهر هذه الرسائل يُلقي ضوءًا ساطعًا على أهم حوادث تاريخ الإنسانية: كبداية المسيحيّة والنهضة الأوربيّة، والثورة الأميركيّة، والثورتيْن الفرنسيّة والروسيّة، والانقلابيْن؛ النازي والفاشي، وأيضًا على حياة العلماء الأعلام مثل داروين وهكسلي ومدام كوري.

وقد تأتي الرسائل كتهديد صريح واستخفاف بالخصم، كما في رسالة دارا الثالث إلى الإسكندر، وهو يصفه فيها “باللص الذي جمع حوله طائفة من اللصوص أمثاله، واتخذ طريقه إلى بلادنا” ويطالبه صراحة بأن “تغادر من فورك المكان الذي تقدمتَ إليه”، وما إن وصلت رسالة دارا إلى الإسكندر حتى أثارت غضبته وكاد أن يقطع روؤس حامليها، فكتب إلى دارا قائلاً “ألا فاعلم أني عقدتُ النيّة على لقائك في ميدان القتال، وهأنذا سائر إلى بلادك، مُقِرٌّ بأني خادمُ الله، ضعيف ذليل، أتضرع إليه وأستغفره وأمجده”.

نفس الشيء نراه في رسائل أورلين إمبراطور الرومان وهو يأمر زنوبيا ملكة تدمر بأن تستسلم هكذا “عليك أن تُسلِّمي المدينة” بل يأمرها هي وأبناؤها بالرحيل حيث المكان الذي “أرتضيه لكم ويرتضيه مجلس روما الموقر”، وهو ما قابلته الملكة بسخرية وتحدٍّ  قائلة “ما من شك في أنك ستُبَدِّل يومئذ لهجتك”.

ومن الرسائل ما يكون استعطافًا بطلب العفو والصفح، فأجريينا أم نيرون (وهي التي أعانته على اعتلاء عرش الإمبراطورية الرومانية في عام 54 ق. م، بدل برتنكس الوارث الشرعي) كتبت إليه تستعطفه، مُنكرة لتهمة الخيانة التي ألصقتها بها محظيته، وأن يعفو عنها، فراحت تُذكّره بأمومتها “لقد حملتُكَ في رحمي.. وغذيتُكَ بدمي”، ومرة ثانية “ألستَ تعرف يا ولدي ما تنطوي عليه قلوب الأمهات كلهن من حب لأبنائهن؟ إنه حب لا تحده حدود”.

الغريب أن نيرون لم يتأثّر بدفاع أمه عن نفسها فأمر بإعدامها. وهو ما حدث مع مدام دي ستال، عندما أرسلت إلى نابليون بونابرت، فبعد أن كتبت رواية بعنوان “دلفين” 1802، والتي أثارت صدمة عنيفة في الأوساط الأدبيّة في باريس لما حوته من آراء جريئة في الدين والزواج والسياسة، ترجوه بأن يلغي أمر نفيها، وراحت تتوسّلُ إليه وتصفه بأنه “سيد العالم، ومولاي، وجلالتك”، بقولها “إن الذين تغضب عليهم يا مولاي يلقون المهانة في أوروبا بسبب هذا الغضب” ومع هذا فلم يأذن لها بالعودة، بل تمّ إتلاف كتابها عن ألمانيا.

ومن الرسائل ما يكشف عن عقيدة فلسفيّة ومبادئ لصاحبها، ففي رسالة الفيلسوف “سينكا” إلى “لوسليس” الفيلسوف الأبيقوري، مبادئ فلسفة سينكا الخُلقية التي تبحث في الأسفار والصحة والدين والعلوم والموت ومباريات المصارعين، والرق وغيرها. ومما جاء في رسالته “يسرني ما حدثني به بعض القادمين من عندك، وهو أنك تعيش مع عبيدك معيشة الصديق مع الصديق، قد يقول الناس ‘إنهم عبيد’ كلا أيها الرفاق  ‘عبيد!’ كلا: إنهم أصدقاء مُنزّهون عن الزهو والصلف”.

كما أنه لا يجد غضاضة في جلوس الرجل مع عبيده على المائدة. بل يسخر ممن يظنون في الأمر ما يشينه ويحطّ مِن قدره. وينتهي إلى قوله “عاملوا مَن هم دونكم كما تحبون أن يُعاملكم من هم فوقكم” ويوجه بأن “يجب أن يُقدَّرَ الناس بأخلاقهم، لا بما يؤدونه من أعمال؛ ذلك أن الأخلاق يكسبها الرجل نفسه، أما الأعمال التي يؤديها فإن الظروف هي التي تخلقها له”.

وقد تكون الرسائل بمثابة كاميرا توثّق ما حلّ بالبلدان من دمار وخراب، فسان جيروم في رسالة بعثها لصديق  يشهد اضمحلال روما وسقوطها واصفًا الأحوال هكذا “لقد نزلت بنا في هذه الأيام مصائب تقشعر من هولها الأبدان، فقد ظلت دماء الرومان عشرين عامًا كاملة تُراق كل يوم في طول البلاد وعرضها من القسطنطينية إلى جبال الألب، واجتاح البلاد القوط والألانيون والهون والوندال” ونراه يتحسر على ما آلت إليه المدينة وقد سادت العالم من قبل، فغدت “أسيرة في يد الأعداء، يجتاحها القحط، ويموت أهلها من الجوع”.

رسائل العشاق

Thumbnail

يتضمن الكتاب كذلك رسائل تُخلّد قصص الحب في وقتها، ومن هذه الرسائل رسالة هلواز وبيتر أبلار الذي هو سليل الأسر الشريفة الميسورة في فرنسا في العصور الوسطى، كان قد حصّل من العلم ما لم يُحصِّلْهُ غيره من أبناء الأشراف، فهو أستاذ للمنطق في جامعة باريس، وواحد من كبار رجال كنيسة نوتردام، أما هلوز فكانت فتاة في التاسعة عشرة من عمرها من إحدى مدارس الأديرة، جاءت إلى بيت عمها لتستمع إلى محاضراته الشيّقة في باريس، وأُعجب بها أبلار، وأشاد بجمالها وصفاتها في رسالة لأحد أصدقائه، حتى أنه يظهر مقاومته لسهم كيوبيد “لقد حاولت عبثًا أن أتجنّبه (الحب)، وأنا فيلسوف ولكن هذا الحب العارم استبدّ بعقلي فغلب على حكمتي، وكانت سهامه أقوى من منطقي واستدلالي”.

تكشف لنا الرسائل عن عشاق يتخفُّون في ثياب سَاسةٍ وقادةٍ عسكريين، وكُتّابٍ وفنانين، وطُغاةٍ، فمن نابليون بونابرت وبيرون وبيتهوفن واللورد نلسون، إلى جوزيف غاريبالدي. وهي تدل على أن هؤلاء القادة لا تُسْليهم المعارك عن معشوقاتهم، ولا تصرفهم ويلات الحرب وأهوالها عن الاستجابة لخفقان القلوب، فالسلطان سليمان العظيم بعد أن وَقَعَ في هيام جاريته حُرّم سلطان (الفتاة الروسيّة روكلاسانا) وهو على أعتاب معركة جديدة يُرسل لها متغزلاً قائلاً “يا عرش محرابي، وثروتي، وحبي، وضوء قمري. صديقتي الأعز، خليلتي، جوهر وجودي، وسلطاني. الأجمل بين كل الجميلات، ينبوع وقتي،.. سأغني مدائحك دائمًا”.

وبالمثل نابليون بونابرت القائد العسكري لم تشغله فتوحاته ومعاركه عن أن يظهر عشقة ودلاله لمحبوبابته، مرة “جوزيفين” ومرة الكونتيسة “ماري لوسكا” التي كان يتوسّل لها. ويقرُّ المؤرخون أن نابليون قد كتبَ أو أملى ما بين 55 ألف و75 ألف رسالة، ما طُبِعَ منها تقريبًا 41 ألف رسالة، وقد خصّ جوزفين برسائل متعدِّدة، منذ أن عرض عليها صداقته، وظل متمسّكًا بحبِّه لها مع ما كان يحُيط به من أخطار في المعارك، ومنذ أن رأها وكانت أرملة في الثانية والثلاثين من عمرها،  تعلّق بها وظل حبُّه لها مسيطرًا علي حياته، ولم تنقطع رسائله إليها رغم أخطار الحرب وشؤون الحكم، فقد أوحت لنابليون – كما يقول – “بحُبّ سلبَ عقلي، فلا أستطيع الأكل ولا النوم ولا العناية بالأصدقاء ولا الاهتمام بالمجد، وحتى النصر نفسه لا أقدره إلّا لأنه يدخل السُّرور عليك، وملأت قلبي حبًّا لا حدَّ له..”.

الكتاب يضم المئات من رسائل الحب والعائلة ورسائل أخرى تلقي ضوءا ساطعا على أهم أحداث تاريخ الإنسانية
الكتاب يضم المئات من رسائل الحب والعائلة ورسائل أخرى تلقي ضوءا ساطعا على أهم أحداث تاريخ الإنسانية

وقد تخلّى نابليون وهو القائد العسكري صاحب الانتصارات في المعارك عن جِدّه وصرامته العسكرية في رسائله، فكان عاشقًا يغضب لأن المحبوبة لم تُرسل له رسائل ردًّا على ما أرسل، فيقول “لستُ أُحبّكِ مطلقًا، بل إني أمقتُكِ، إنكِ فتاة خبيثة سمجة حمقاء”، ويبيّن سبب ثورته وغضبه قائلاً “إنكِ لا تكتبينَ إليّ، إنكِ لا تحبينَ زوجكِ، وأنتِ تعرفينَ ما تدخِلُه رسائُلكِ من السرور على قلبه”. ومع شدّة معاناته معها بسبب إهمال رسائله، ونزقها، حتى إنه كان يطالبها “هلّا نزلتي من عليائك.. وتشجمتي بعض المشقة من أجل عبدكِ”، كان خاضعًا لها فلم تنقطع عادة مراسلتها وهو يتنقل من بلدٍ إلى بلدٍ، ففي كلِّ بلدٍ كانتْ هي حاضرةٌ يبثُّهَا أشواقه، وفقده لها، ورغبته في اعتصارها بين يديه، ولثمها، ويقرِنُ حبّه للنساء الطيبيات الوفيات الحسان “لأنهن يشبهنك كما يقول لها”.

كما تفضح الرسائل مكنون النفس، فبيتهوفن الذي كان متحفظًا في موسيقاه، يفرض على نفسه أشدّ  القيود، كان على العكس تمامًا في رسائله، إذْ كان يُطلق لنفسه العنان، ويتدفق شعوره كالسيل، فيقول لجيليتا حبيبته “إن حُبّكِ لي عظيم ولكنّ حبي لكِ أعظم، فما أشقى الحياة  من غير أن تكوني معي” ومرة ثانية يبعث لها قائلا “أنا الآن في فراشي، ولكن أفكاري تحوم حولك يا حبيبتي الخالدة، وهي آنًا أفكار سارة، وآنًا حزينة” حتى إنه يختار “إما أن أعيش كُلّي معكِ، وإما ألا أعيش أبدًا”، ومرة أخرى “إنّ حُبّكِ ليجعلني أسعد الناس وأشقاهم معًا” ولا يخجل من أن يعترف بأن الحب أذله “فما أكثر ما ذرفت من الدمع اليوم وأمس شوقًا إليكِ أنتِ أنتِ حياتي كُلّي الوداع حافظي على حُبّكِ لي ولا تشكّي قطّ في قلب مُحبكِ  الوفي المخلص لكِ. فأنا لك أبدًا وأنت لي أبدًا وكلانا للآخر أبدا”.

وتكشف الرسائل عن تدخلات السياسة، وإملاءاتها على الكُتاب، فمثلاً اقترح بعض الأصدقاء على مدام دي ستال أن تكتب شيئًا عن مولد ملك روما ابن نابليون؛ كي تنال رضاه، إلا أنها أبت، وبالمثل فعلت الروائية البريطانية جين أوستن، عندما طُلِب منها أن تكتب رواية غرامية تشيد بأمجاد آل ساكس كوبرج، وتهديها إلى الأمير ليو بولد، على غرار روايتها الأولى “إيما” التي أهدتها للوصي بناء على طلب أمين مكتبة الوصي بحجرات القصر، إلا أن هذه المرة جاء ردُّها مُفحِمًا ومؤدبًا “ولكني عاجزة عن كتابة القصص الغرامية التاريخيّة عجزي عن إنشاء الملاحم الشعرية”.

وهناك رسائل تكشف عن حوادث تاريخيّة مهمّة كحادثة الضابط ألفريد دريفوس، والتي كانت تنكيلاً بالمثقفين، فجاء خطاب إيميل زولا -الذي وصفه أناتول فرانس بأنه أكبر قوة دافعة في ضمير الإنسانية – كتسجيل لواقعة غيّرت علاقة المثقف بالسلطة، كما كشفت – وهذا هو الأهم – عن وظيفة المثقف التي كرست لها أطروحات أنطونيو غرامشي وجوليان بندا وإدوارد سعيد، لتضع المثقف في مواجهة الأزمات وتُنْزله من برجه العاجي، ليمارس دوره الإصلاحي والتنويري. فأرسل إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك رسالته الشهيرة التي عنونتها الصحيفة بـ”إني أتهم”، والتي حمّل فيها الكثيرين من المسؤولين الحكومين وأعضاء المحكمة وآخرين عدّدهم بالأسماء في عريضته؛ مسؤولية إدانة دريفوس يطلب منه أن يرد على الناس إيمانهم بالعدالة الإنسانية.

الأدباء والفلاسفة

 الأدباء أكثر من كانت رسائلهم مؤثرة
 الأدباء أكثر من كانت رسائلهم مؤثرة

تعددت رسائل الأدباء ما بين رسائل شخصية عائلية، على نحو ما فعل أنطوان تشيخوف بعد رحلته إلى الشرق الأقصي عام 1890، بعنوان “رسائل إلى العائلة”، فإلى جانب ما كشفته الرسائل عن علاقته بأفراد أسرته؛ أمه وإخوته وزوجته وأصدقائه الكثيرين. أظهرت ولعًا شديدًا من تشيخوف بالأماكن والمناظر الطبيعية، وقدرة هائلة على وصف العادات والتقاليد والتنوّع السُّكّاني في البلاد التي كان يمرُّ بها، فكتبَ عن اليهود والبولنديين الفارين من الإقصاء، وكذلك التتار وسهول سيبيريا، وتضمنت الرسائل اعترافه لأخته بأنه يكتب من أجل المال.

وهناك أيضًا رسائل الشاعرة سيلفيا بلاث إلى أمها، تسرد فيها علاقتها بالشاعر تيد هيوز، منذ أن ارتبطت به، وتنامي علاقتهما، إلى الشكوى منه بتعدّد علاقاته، وقسوته بضربها وإيذائها البدني، وهو ما جعل جزءًا من رسائلها تذهب إلى طبيبتها النفسية التي تُتابع حالتها.

وما يندرج تحت رسائل العائلة رسائل دوستويفسكي، فكثير من الرسائل موجه إلى أمه ماريا التي كان يرتبط بها بعاطفة شديدة، وأبيه ميخائيل وكان يصف له فيها تقدّمه (هو وأخوته) في الدراسة، ومنها رسائله إلى أخيه ميخائيل؛ إذ كانت تربطه به علاقة وثيقة، وعندما حُكم عليه بالأشغال الشاقة في سجن سيبيريا، كتب إليه واصفًا شعوره المرعب بارتقاب لحظة المصير، ثم بعد خروجه من السجن ونجاته كتبَ إليه يصف شعوره  بالحرية، وكيف أنه لم يفقد الأمل، فكما يقول له “الحياة موجودة في داخلنا وليس في العالم الخارجي”، وأهم شيء نقله لأخيه هو أنه – في السجن – اكتشف روسيا؛ “وبالأخص الشعب الروسي. وأزعم أني أعرفهما الآن أكثر من أي شخص آخر”.

وما يدخل في رسائل العائلة رسائل أنطوان غرامشي، والتي حملت عنوان “رسائل السجن: رسائل أنطوان غرامشي إلى أمه 1934:1926” وقد صدرت نسختها الأولى في عام 1947، في ستة مجلدات تحوي 32 دفترًا. وفي هذه الرسائل يأتي حضور الأم غير مباشر باستخدام الضمائر العائدة عليها.

 وفي رسائله يُسلّط غرامشي الضوء على حالة الافتقاد التي كان يعيشها، على الرغم من مراوغته عبر اللغة في إظهار النقيض حيث رباطة الجأش، وقدرة التحمُّل، حمّل كثيرًا من الرسائل برسائل طمأنة لأمه عن أحواله داخل السجن، فهو بحالة جيدة، كما يسرد لها عن عاداته داخل السجن، من قراءة وكتابة. ومحاولته التكيف مع هذا الوضع الجديد عليه، فينقل لها وقائع المحاكمة والسجن التي يتردد عليها. كما تتضمن الرسائل همًّا كبيرا منه لأفراد العائلة (الأم، الإخوة، الزوجة، والأولاد)، فهو دائم السؤال عنهم.

تختلف رسائل ناظم حكمت الشاعر التركي، عن رسائل غرامشي، فمع أن كليهما مصدره واحد هو السجن، وأيضًا غايتهما واحدة، فقد سعيا إلى الاتصال بالخارج بواسطة حبل جيني مؤلف من الكلمات، إلا أن رسائل ناظم كانت مرسلة لآخر يقطن نزيلاً في السجن، هو الأديب كمال طاهر. الرسائل تؤرخ للفترة التي قضاها في سجن بورصة، بتهمة الانتماء إلى الشيوعية، وكان قد ضاق ذرعًا بـ”احتباس الإرادة” كما أسماها. تناول في الرسائل اليومي داخل السجن. تظهر الرسائل شكوى ناظم من السجن وشعوره بأنهم تركوه كي يتعفن، ومحاولاته لرفع الظلم عنه بكتابة الكثير من العرائض الموجهة لرئاسة الوزارء وغيرها، لكن دون جدوى.

الرسائل قد تتجاوز الجانب الشخصي وتكون بمثابة كاميرا توثّق ما حلّ بالبلدان من دمار وخراب أو أحداث

وهناك رسائل الحب المتبادلة بين الكتاب ومعشوقاتهم كرسائل كافكا إلى ميلينا، ونابكوف إلى فيرا، وألبير كامى إلى ماريا  كزاريس، ودوستويفسكي إلى زوجته. فكافكا يظهر في “رسائل إلى ميلينا” عاشقًا ولهًا، “مجروح القلب” أو الضعيف ببعدها، كما وصف نفسه لها في إحدى رسائله، فخلافًا للصورة المألوفة نعثر  في الرسائل على شخص متفائل يرى الجمال حوله في تجواله وينعكس كذلك على داخله، وتتسرب الأفكار بعد جولاته في الطبيعة في مخيلته بتدفق وسلاسة. وأيضًا صورة العاشق القلق على محبوبته وإلى جانب هذه الصورة التي بدا عليها كافكا، كشفت عن إمكانية روحه للمعايشة في الواقع والافتتان به إلى هذا الحد.

ومن رسائل العشق أو ما يمكن وصفه بقصة الرحيل رسائل الشاعر الروسي فلاديمير نابوكوف إلى فيرا شلونيم (زوجته) ابنة تاجر الأخشاب، التي حملت عنوان “رسائل إلى فيرا”. ويضم الكتاب رسائل يحكي نابوكوف من خلالها عُمق العلاقات الأخطبوطيّة التي كونها في الأماكن التي رحل إليها، مرورًا بعلاقته بفيرا التي وصفها قائلاً في إحدى رسائله بأنها “ملاكُه ذو الخُصل الشقراء”، وما انتابها من عثرات عند اكتشاف علاقته بفتاة روسية صغيرة.  فإلى جانب ما تقدمه الرسائل من قصة عشقه لفيرا، إلا أنه على الجانب الآخر تقدم صورة أخرى لنابكوف أو سيد السرد الروسي، عن مواقفه الدينيّة، والسياسيّة وعلاقاته بالمنظمات السّريّة التي سعت إلى احتضانه كالماسونيّة أو المخابرات البريطانيّة.

يتكون مجموع الرسائل المتبادلة بين الفيلسوفين؛ مارتن هايدغر وحنّة أرندت، من سبعين رسالة، تؤرخ لأطرف قصص الحب الفلسفي. جمعهما – إلى جانب الحب – وعيهما الفكري بضرورة القطع مع التراث الموروث، هي كانت تدافع عن فكرة وصول الفكر إلى العالم والاهتمام بالإنسان كإنسان في ضعفه وتجاربه ومحنه، أما هو فسعى من أجل إنقاذ الفلسفة من براثن تقليد ميتافيزيقي وهو ما أضرها.

الرسائل لم تقتصر على يوميات الحياة فقط، وإنما اشتغلت أيضًا بعويص الأسئلة الفلسفية، وقد بدأت علاقتها به وهي طالبة في الثامنة عشرة من عمرها، في حين كان في الخامسة والثلاثين، متزوجًا وله ولدان، في أول رسالة بعثها لها عام 1925، عبّر لها عن حُبّه، طالبًا منها إقامة علاقة من نوع خاص تكون “بسيطة وصافية”. اتسمت الخطابات بحرارة العاطفة ودفء الحب؛ إذ وجد فيها قارئة متميزة لأعماله المعقدة، أما هي فوصفته بأنه “المعلّم الذي تعلمت على يديه كيف تفكّر” كان يلقُّبها بحورية الغابة، وهي لقَّبَتُه بقرصان البحر، وقد تضرعت له كي لا ينساها، كما أكدت له بعد إصراره على ترسيم العلاقة بينهم (هو وزوجته ألفريدا، وحنة) “سأفقد حقي في الحياة، لو فقدت حبي لك”.

وتعد مراسلات جورج لوكاتش (350 رسالة) التي عُثر عليها بعد وفاته، ذات قيمة كبيرة في الكشف لا عن عبقرية الفيلسوف المجري، أو حتى خصوصيته الإنسانية وفرادته الفكرية والجمالية، وإنما – تنبع أهميتها الأساسية أيضًا – كوثيقة للإحاطة بالخصوصيات التاريخيّة والثقافيّة، والاتجاهات الفلسفيّة والأدبيّة والنقدية السائدة في تلك الفترة.

في العالم العربي فن الرسائل فن أصيل منذ الرسائل الديوانية ورسائل إخوان الصفا ورسائل ابن العميد ورسائل الجاحظ (رسالة التربيع والتدوير) التي يسخر فيها من أحد معاصريه، المكنّى بأحمد بن عبدالوهاب. وفي الأدب الحديث من أشهر من كتبوا الرسائل الشاعرة فدوى طوقان، فبالإضافة إلى رسائلها المتبادلة مع أنور المعداوي، هناك رسائلها مع سامي حداد ورسائلها إلى ثريا حداد صديقتها، وبالمثل هناك رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني ثم إلى أُنسي الحاج، ورسائل نازك الملائكة لعيسى الناعوري، وهناك رسائل عبدالحكيم قاسم التي جاءت بعنوان “كتابات نوبة الحراسة” وهي الرسائل التي كتبها أثناء رحلته إلى ألمانيا.

كامي وكزاريس 

Thumbnail

بين ألبير كامي و ماريا كزاريس الكثير من الرسائل التي كشفت عنها ابنته كاثرين كامي، وقد تضمنت 865 رسالة متبادلة بين الكاتب الوجودي من أصل جزائري، والممثلة الفرنسية من أصل إسباني ماريا كزاريس (1922- 1997). الرسائل أشبه بيوميات تظهر الكثير من أوجه التعاون الفني بينهما، منذ أن  تعارفا مع أول تعاون فني بينهما، فقد اختار كامي الممثلة الشابة ماريا لتعلب دور “مارتا” في مسرحية  “سوء تفاهم” (بدأ التدريبات 6 يوليو 1944)، وبعد ذلك اختارها لدور “دورا” في مسرحية “العادلون”. تطورت العلاقة بينهما بعد لقائهما، ومع تعدد اللقاءات، وهو ما كان يعتبره كامو “مصادفات قدرية” إلا أن ماريا كانت ترى من خلال العراقيل بينهما أن “فُرض علينا حب ممزق”.

تبادل الاثنان الأوصاف التي تشي بعمق العلاقة بينهما فهو يصفها بأنها “قديسته الصغيرة المتلهفة”، و”الراحلة الهائمة”، و”شاطئه”، في حين اعتبرت ماريا، كامي “رفيقها في المعركة”، و”أميرها الجميل المنفي”، و”حبيبها المجنون”، و”مصدر معرفتها”، ونتيجة توطُّد العلاقة بينها كشف لها ألبير من خلال مراسلاته اختناقه وكربه، وحكى لها عن حياته الزوجية، وعن زوجته فرنسيس المصابة بالانهيار العصبي، وشعوره هو باللاجدوى والوحدة، وملله من الحياة، أما هي فتناولت تفاصيل حياتها الفنية وتسجيلاتها الإذاعيّة وأفلامها السينمائيّة، وأخبار أصدقائها، وسردت له تفاصيل رحلاتها الفنية إلى روسيا وأميركا والجزائر. كما اشتملت الرسائل على اهتماماتها الثقافية وقراءتهما والكتب والشخصيات التي أثرت فيهما.

ومن الرسائل كتاب “فرناندو بيسوا – رسائل ونصوص”، وهو كتاب يكشف عن العوالم المتعددة للشاعر البرتغالي، وتوجهاته السياسيّة، ويحتوي على الرسائل التي كتبها باسمه أو بأنداده لأمه وبوحه لها مما يعانيه من اضطراب واغتراب بسبب الرحيل المتوالي لأصدقائه، وكذلك رسائله إلى حبيته أوفيليا كويروز، فهو العاشق الحسيّ، وخوفه من استمرار العلاقة، والصراع الذي شملها وصولاً إلى النهاية التي انتهت إليها قصة الحب بعد حالة الملل التي تسربت إلى أوفيليا بعد مرور عام دون أن يتوّج الحب بالزواج.

وهناك رسائل الشاعر والكاتب الأميركي بول أوستر إلى الكاتب الجنوب أفريقي  جون. إم. كوتزي بعنوان (هنا والآن)، وهي الرسائل التي شغلت الفترة ما بين 2008 و2011، ترصد تأملاتهما في عالم الصداقة والزواج والكتب والمكتبة في ضوء تطورات المستقبل، واستبدال صور الكتب بصورها الإلكترونية، وتسليع الرياضة والتقدّم إلى أرض الشيخوخة، وعن إسرائيل وموقفه (أي كوتزي) من الذين انتخبوا نتنياهو. وما يدخل في رسائل الأصدقاء، رسائل يونغ إلى فرويد، فالرسائل المتبادلة تكشف الاحترام المتبادل بينهما على الرغم التفاوت العمري الظاهر (فرويد في الخمسين، ويونغ في الثلاثين)، وصولاً إلى الخلافات الفكريّة التي عصفت بهذه الصداقة، وحولتها إلى عداوة.

13