الرباط – مدريد: محور أفريقي - أوروبي مستدام للأمن والسلام والازدهار

توقيت زيارة بيدرو سانشيز إلى المملكة المغربية يضفي على الزيارة أبعادا عميقة للغاية لأنها تعكس اهتمام المملكة المغربية بترسيخ روابطها الإقليمية في ظل تعنت الجوار الإقليمي عن التوصل إلى تسوية إقليمية.
السبت 2024/02/24
إضافة نوعية لمسار الشراكة الإستراتيجية

العلاقات المغربية – الإسبانية ليست مجرد علاقات نمطية بين دولتين صديقتين تؤطرها اتفاقيات أو معاهدات ولقاءات روتينية متواترة بين قيادة البلدين بل هي روابط تاريخية وحضارية متينة بين أسرتين ملكيتين عريقتين وعلاقات طيبة بين شعبين صديقين يمتلكان الكثير من التاريخ المشترك يمتد لآلاف السنين ثم علاقات بين مملكتين جارتين وبلدين يتطلعان إلى المزيد من التعاون المثمر المشترك، لذلك فمحور الرباط – مدريد هو أحد الفواعل المؤثرة في الديناميات المؤثرة على الأمن الجيوسياسي في مضيق جبل طارق الذي تحول إلى أحد أهم الممرات المائية المؤثرة في سلاسل الإنتاج العالمية ويشكل أحد عوامل الاستقرار الجيوسياسي في منطقة غرب المتوسط وشمال غرب أفريقيا والعالم.

بالعودة قليلا إلى الوراء يمكننا اعتبار مضامين الخطاب الملكي ليوم 20 أغسطس – آب 2021 تخليدا لذكرى ثورة الملك والشعب خارطة طريق متكاملة لإعادة بناء العلاقات المغربية – الإسبانية على أسس هادئة وواضحة ومسؤولة، حيث أكد العاهل المغربي الملك محمد السادس في ذات الخطاب أن المغرب “يتطلع، بكل صدق وتفاؤل، إلى مواصلة العمل مع الحكومة الإسبانية ومع رئيسها بيدرو سانشيز من أجل تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقات بين البلدين على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل، والوفاء بالالتزامات”. وهو ما أكد عليه رئيس الحكومة الإسبانية في رسالته إلى العاهل المغربي يوم 14 مارس 2022 بقوله “هدفنا يتمثل في بناء علاقة جديدة، تقوم على الشفافية والتواصل الدائم، والاحترام المتبادل للاتفاقيات الموقعة بين الطرفين والامتناع عن كل عمل أحادي الجانب، وفي مستوى أهمية جميع ما نتقاسمه”.

عودة الدفء إلى العلاقات المغربية – الإسبانية تجسد التنزيل الدقيق للرؤية الملكية في الشأن الدبلوماسي والتي ترى في المملكة المغربية لاعبا أساسيا ومحوريا في الأمن البشري للقارة الأفريقية

الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات هي محددات جوهرية في معالجة الملفات السياسية والاقتصادية المطروحة فوق طاولة الحوار الإستراتيجي المغربي – الإسباني، لذا فالمملكة المغربية كقوة إقليمية في غرب المتوسط بامتدادات دبلوماسية عريقة وشبكة علاقات دولية واسعة تشتغل وفق مقاربة دبلوماسية تشاركية مبنية على الالتزام بالقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية واحترام سيادة الدول وشؤونها الداخلية، وموقف الدولة الإسبانية الواقعي من قضية الوحدة الترابية للمملكة ودعمها الصريح والعلني لمبادرة الحكم الذاتي المعبر عنه في البيان المشترك المعتمد في 7 أبريل 2022، والإعلان المشترك الصادر في ختام الدورة الـ12 للاجتماع رفيع المستوى المغرب – إسبانيا المنعقد في 2 فبراير 2023 باعتباره الحل السياسي الأكثر جدية وواقعية ومصداقية هو بداية عصر جديد من التوافق الحضاري بين أمتين عريقتين تربطهما أواصر صداقة قديمة تمتد لآلاف السنين.

ولهذا تمثل الزيارة التي قام بها سانشيز رئيس الحكومة في المملكة الإسبانية إلى العاصمة الرباط واللقاءات رفيعة المستوى التي أجراها وفي قمتها الاستقبال الملكي من طرف الملك محمد السادس، تمثل إضافة نوعية مهمة لمسار الشراكة الإستراتيجية بين محور الرباط – مدريد الذي تحول بفضل الإرادة القوية لقيادة البلدين إلى عامل مهم من أجل ترسيخ أسس هذه العلاقات ووضع تصور مستقبلي برؤية اندماجية لها بناء على الروابط الحضارية والتاريخية والجغرافية المشتركة التي جسدها المشروع الأممي المغربي – الأيبيري باحتضان وتنظيم حدث كأس العالم 2030 وانطلاق العمل في مشروع الربط القاري عبر مضيق جبل طارق والذي سيكون بلا شك أول محطة مفصلية في مسار تاريخي جديد للعلاقات بين الشعب المغربي والشعب الإسباني الصديق، ملف الترشيح المشترك المغربي – الأيبيري هو رسالة إلى العالم بأن صانع القرار السياسي المغربي قد حسم قراره التاريخي في وضع تسوية إقليمية تناسب تطلعاته في بناء جسور السلام والتعاون والبناء الاقتصادي المشترك، ومحور الرباط - مدريد التاريخي أصبح اليوم واقعا جيوسياسيا في غرب المتوسط وفق توجه أطلسي ثابت الخطى.

تأتي هذه الزيارة بعد سنة على انعقاد الدورة الثانية عشرة للاجتماع رفيع المستوى المغرب – إسبانيا، وبعد ثماني سنوات على عقد آخر دورة لهذه الآلية المؤسساتية رفيعة المستوى في مدينة الرباط على مدى يومين من الاجتماعات واللقاءات المشتركة بين المسؤولين المغاربة ونظرائهم الإسبان في ظرفية دولية وإقليمية دقيقة عنوانها اللايقين الاقتصادي وتداعيات جائحة كورونا وانعكاسات الحرب الأوكرانية على الوضع الاقتصادي العالمي والتجاذبات الجيوسياسية بين القوى الدولية في خضم محاولة أطراف إقليمية التأثير على عمق وصيرورة هذه العلاقات بقرارات مزاجية ومواقف استفزازية ومؤامرات سياسية.

عودة الدفء إلى العلاقات المغربية – الإسبانية تجسد التنزيل الدقيق للرؤية الملكية في الشأن الدبلوماسي والتي ترى في المملكة المغربية لاعبا أساسيا ومحوريا في الأمن البشري للقارة الأفريقية وفي محيطها المتوسطي والدولي، لذا فالمملكة المغربية قادرة بكل مسؤولية على ممارسة دورها الريادي في القارة الأفريقية كحلقة وصل بين الشعوب الأفريقية الغنية بمواردها البشرية والطبيعية وباقي دول الشمال التي تبحث عن موطئ قدم في القارة الأفريقية من خلال شراكات إستراتيجية مسؤولة تخدم مصالح وثروات ومقدرات شعوب القارة وتدعم  قدرتها على الصمود في وجه التغيرات المناخية القاسية والمخاطر الأمنية القاهرة.

الموقف الإسباني تجاه الوحدة الترابية للمملكة المغربية يدعم جهود المغرب لمساعدة شعوب القارة الأفريقية على ضمان حقوقها غير القابلة للتصرف في التنمية المستدامة وتحقيق الأمن

إعجاب سانشيز بالمشاريع والمبادرات المهيكلة التي يطرحها المغرب كحلول تنموية شاملة في محيطه الإقليمي كمشروع أنبوب الغاز أفريقيا – الأطلسي (المغرب – نيجيريا) الذي يعتبر طريقا جديدا للاندماج الإقليمي بين مختلف شعوب غرب وشمال القارة الأفريقية بقيادة إقليمية مغربية – نيجيرية، من خلال العمل على تنفيذ مشاريع اندماجية وتشاركية برؤية متجددة للتعاون متعدد الأطراف لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة والتكامل القاري والإقليمي وتعزيز السيادة في مجال الطاقة وترسيخ قيم الاستقرار والسلام والأمن كمداخل للديمقراطية والحكامة الرشيدة وكذلك المبادرة الملكية لتعزيز ولوج بلدان الساحل إلى المحيط الأطلسي ومبادرة البلدان الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي كمبادرات متفردة تقوي الروابط بين الشعوب الأفريقية وتندرج في صلب السياسات القارية التي تدعو إلى التكامل الاقتصادي والتعاون البناء بين كل دول القارة الأفريقية لتثمين ثرواتها وحماية مقدراتها من السياسات الاستعمارية وأطماع بعض القوى التي تحن إلى تاريخها الإمبريالي البغيض القائم على النهب والاستغلال والاستعباد لمقدرات الشعوب الأفريقية.

الموقف الإسباني تجاه الوحدة الترابية للمملكة المغربية يدعم جهود المغرب لمساعدة شعوب القارة الأفريقية على ضمان حقوقها غير القابلة للتصرف في التنمية المستدامة وتحقيق الأمن ودعم جهود الاستقرار ويؤكد على الفهم العميق والدقيق لصانع القرار الإسباني لطبيعة التحديات والمخاطر التي تهدد الإقليم بصفة عامة والمصالح الإسبانية ويعطي القوة لقدرة مدريد على التموقع الإيجابي في القارة الأفريقية من منطلق الشراكة الإيجابية الفاعلة.

توقيت زيارة بيدرو سانشيز إلى المملكة المغربية يضفي على الزيارة أبعادا عميقة للغاية، لأنها تعكس اهتمام المملكة المغربية بترسيخ روابطها الإقليمية في ظل تعنت الجوار الإقليمي عن التوصل إلى تسوية إقليمية وغرقه في مقاربات عدائية لا تتناسب وحجم التهديدات التي تواجه الأمن البشري الجماعي في المنطقة.

اللقاء المغربي – الإسباني يكرس مكانة المملكة المغربية المركزية في مستقبل المنطقة ويؤكد صواب رؤيتها الإستراتيجية الساعية إلى نزع فتيل الأزمات وخفض التوتر الإقليمي عبر بناء شراكات فاعلة وتصورات مشتركة حيال القضايا والملفات التي تقع في مدار اهتمام الفاعل الدبلوماسي المغربي.

ولا غالب إلا الله.

9