الرابطة التونسية لحقوق الإنسان: الشراكة مع السلطة أهم أم موقع المعارضة المريح

تغيرت قيادة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان في مؤتمرها الأخير، وسقط الشق الذي كان يمثل الأغلبية المدافعة عن فكرة التهدئة مع السلطة وبناء جسر للحوار معها بدلا من خيار المواجهة التي كانت سائدة منذ تأسيس الرابطة في 1977. في المقابل صعد شق التصعيد، الذي يرى أن الرابطة باعت سمعتها وتاريخها حين قررت أن تهدئ مع الرئيس قيس سعيد وتتغاضى عن إصدار مواقف بشأن حل المجلس الأعلى للقضاء أو المراسيم التي أصدرها قيس سعيد للحصول على سلطة تامة بيده.
الخيار الثاني سهل وغير مكلف، حيث يستطيع مسؤولو الرابطة من رئيسها إلى أقل مسؤول فيها أن يجلس على أريكة في مقر المنظمة الحقوقية أو في فندق من الفنادق ويصدر بيانا يحتج فيه ويندد طولا وعرضا بأي تفصيل من تفاصيل العمل الحكومي، وسيحصل بالتأكيد على التصفيق من الداخل والخارج، مثلما يحدث الآن.
بعد فوز الشق/ الفريق الذي يؤمن بالقطيعة مع السلطة توالت الإشادات بالرابطة وتاريخها ونضالها والشهادات في حق من تم انتخابهم، وأنهم مناضلون أبناء مناضلين. وقبل ذلك كان البعض من هؤلاء الفائزين، وهم أعضاء في القيادة القديمة عرضة للسب والشتم والتقليل من تاريخهم والغمز بالتوريث في صعود البعض منهم.
المهم ليس حساب الإشادات، ولكن حساب ماذا ستفعل الرابطة إذا اختارت القطيعة مع الحكومة ومؤسسة الرئاسة واختارت الجلوس على الربوة واكتفت بالبيانات. القيادة الجديدة تعرف أن قيس سعيد يمكن أن يهمل التعاطي مع الرابطة تماما كما أهمل منظمات وجمعيات أخرى أخذت اتجاها مزايدا وعملت على تغليب الواجهة السياسية على دورها في التغيير القائم على الشراكة وبمنطق خذ وهات مع الحكومة.
◘ التمويل الخارجي يفقد أي مؤسسة حيادها واستقلاليتها ويضعها موضع شك لدى الحكومة، أيا كانت نوايا الممولين وحساباتهم، ولو أن تجارب المنظمات الحقوقية والمدنية كشفت أن لا تمويل بلا مقابل
الحكومة يمكن أن تقدم عن طيب خاطر تنازلات وتسوي ملفات وتستجيب لأي طلبات مهما كانت معقدة أو ملتبسة، لكن تحت التهديد والوعيد فهي ستتراجع إلى الوراء وتتعامل بمنطق ليس لدي ما أقدمه، ومن السهل على وزارة العدل أو الداخلية أن تجد تأويلات قانونية ومسالك وثنايا تجعل المنظمة تروح وتجيء دون تحقيق أي مكسب كان سيكون سهلا وممكنا لو أنها طلبته من موقع الشريك الناصح وليس الحزب السياسي الذي لا يرضيه العجب في رجب.
بحسب المؤشرات والتصريحات الأولى، فإن الرابطة ستعود إلى لعب دور الحزب السياسي، وهو ما سيؤدي إلى إضعاف علاقتها بالسلطة، وشراكتها معها في الملف الحقوقي الذي مكنها في الأشهر الماضية من زيارة السجون ومناقشة التجاوزات وساعد على تجاوز بعض الظواهر السلبية.
أيهما أفضل شراكة تطور واقع حقوق الإنسان، وتجعل الدولة أكثر حرصا على إنجاح المسار، أم الوقوف في صف المعارضة السياسية ودفع السلطة إلى وقف باب التعاون والتشدد في الملف الحقوقي؟
أيهما أهم تطوير واقع حقوق الإنسان أم تسجيل المواقف السياسية التي ترضي المعارضة والجهات الخارجية الداعمة للرابطة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن السلطة السياسية من واجبها أن تتواضع وتستمع إلى الحقوقيين وتكون أحرص على القطيعة مع الأساليب القديمة التي بدأت تطل برأسها من جديد عبر بعض المحافظين والمسؤولين الحكوميين وحتى وزراء. القانون يظلل الجميع ويمكن من جسر الهوة بين الرابطة وشريكها الحكومي. الهروب إلى الأمام لا يخدم أحدا.
والحقيقة أن استدارة رابطة حقوق الإنسان من لعب الدور التفاوضي المباشر لتحسين واقع حقوق الإنسان إلى لعب الدور السياسي التقليدي المريح، وهو ظاهرة تختص بها المنظمات الاجتماعية والحقوقية التونسية التي تترك ملعبها المباشر وتفاصيله لفائدة الأيديولوجيا والأفكار السياسية التصعيدية التي تنظر إلى الدولة كنقيض وخصم تجب هزيمته وليس إلى شريك. نظرة من مخلفات الأفكار اليسراوية التي تؤمن بالصراع والتفكيك، وهي الأرضية التي قادت إلى فشل الثورة التونسية في أن تجلب برنامجا لخدمة الناس بدلا من التهويمات السياسية الباحثة عن التأسيس والتغيير الجذري.
الرابطة تسلك طريق اتحاد الشغل الذي لا يخفي رغبته في أن يلعب دورا سياسيا طلائعيا بالتوازي مع دوره الاجتماعي أو حتى من دونه. منذ 2011 بات الاتحاد واجهة لمجموعات يسراوية وقومية تطبق أفكارها في هزيمة الدولة ولعب دور الحزب الطلائعي الذي لا يفوت الفرصة التي تتاح له لرفع سقف التصعيد.
الاعتراف للاتحاد بهذا الدور السياسي الريادي خلال الحكومات السابقة لم يعفها من أن تجد نفسها مجبرة على تقديم التنازلات يوما عن آخر. وإذا كانت هي قد قدمت التنازلات لشراء ود الاتحاد مقابل بقائها، فإن البلاد وجدت نفسها أخيرا في وضع معقد بسبب هذه السياسة.
لم يسلم اتحاد الفلاحين (المزارعين) من لعبة السياسة خلال السنوات الماضية، وخاصة بعد 25 يوليو 2021 حين واجه الدولة في الظاهر باسم المزارعين وفي الباطن كواجهة لحركة النهضة الإسلامية التي كانت خسرت السلطة وفقدت هيمنتها على البرلمان الذي تم حله.
إن رابطة حقوق الإنسان، بقطع النظر عن الذي فاز وصعد إلى القيادة، في حاجة إلى أن تمشي على أرض حقوق الإنسان، وأن تغادر المربع الحقوقي التقليدي كواجهة سياسية للأحزاب الصغيرة أو العاجزة عن مواجهة الناس. صحيح أن الحقوق السياسية مهمة، ولكن هناك حقوق أخرى يمكن أن تفتح المنظمة لها صدرها، فقط هي تتحرك وتنفتح على الناس.
هناك من له حقوق ضائعة من بسطاء الناس الذين لا يقدرون على الوقوف ضد المسؤولين الصغار في قراهم وأحيائهم الشعبية ومدنهم، هناك من لا يقدر على تحصيل حقه حتى لو أنصفه القضاء لأن من اشتكاه نافذ وله أكتاف سمان. هؤلاء يحتاجون إلى فروع الرابطة لتستقبلهم وتحمل ملفاتهم إلى السلطة التنفيذية المحلية والمركزية وتعيد لهم حقوقهم.
◘ القيادة الجديدة تعرف أن قيس سعيد يمكن أن يهمل التعاطي مع الرابطة تماما كما أهمل منظمات وجمعيات أخرى أخذت اتجاها مزايدا
ويبقى على المنظمة ذات التاريخ العريق أن تحسم أمر النفوذ الخارجي، وخاصة مسألة التمويل التي أضاءها الكاتب العام المتخلي بشير العبيدي بكشف قائمة تفصيلية لممولي المؤتمر، وفيهم أطراف تونسية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أنفق 120 ألف دينار (حوالي 40 ألف دولار) “تكاليف إقامة المؤتمرين والمنظمين ثلاث ليال” بأحد الفنادق في مدينة الحمامات، كما قال العبيدي.
ولسائل أن يسأل ما دخل الاتحاد لينفق أموال منتسبيه على مؤتمر منظمة مستقلة يفترض أنها تحصل على تمويلها بطرق شفافة من الأعضاء المنخرطين فيها أو من الدولة. هل لعب الاتحاد دورا في إسناد صعود الشق المنتصر للصدام مع الدولة ليكون عونا له في مسار التصعيد؟ ثم ما مشروعية حصول الرابطة على تمويلات من منظمات خارجية مثل مكتب فريديريك ألبرت بتونس، أو محامين بلا حدود، أو مكتب الاتحاد الأوروبي، أو المفوضية السامية لحقوق الإنسان، أو منظمات فرنسية وإسبانية.
التمويل الخارجي يفقد أي مؤسسة حيادها واستقلاليتها ويضعها موضع شك لدى الحكومة، أيا كانت نوايا الممولين وحساباتهم، ولو أن تجارب المنظمات الحقوقية والمدنية كشفت أن لا تمويل بلا مقابل.
ومن شأن هذا التمويل أن يدفع إلى المواجهة مع الدولة، خاصة في وضع تونس وموقف قيس سعيد المتشدد في موضوع العلاقة بالخارج، ليس فقط للأحزاب، ولكن أيضا للجمعيات والمنظمات
وكان الرئيس سعيد طالب في فبراير الماضي بقانون يمنع تمويل الجمعيات غير الحكومية من الخارج، معتبرا أن تلك الجمعيات “امتداد لقوى خارجية”.
وأضاف “هي في الظاهر جمعيات ولكنها امتداد للخارج”، مشددًا على أنه “لن نسمح بأن تأتي هذه الأموال للجمعيات للعبث بالدولة التونسية أو القيام بحملات انتخابية”.