الدولة العميقة مسيطرة على النظام التركي

المشهد العام للأوضاع واضح، وهو أن نهاية هذا الطريق ستكون مظلمة مفعمة بالظلم الذي بات يزداد يوما بعد يوم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحصول على أي نتائج أخرى غير ذلك.
الخميس 2018/07/12
ليس من السهل استخراج ديمقراطية علمانية من بين ثنايا البنية الحالية لتركيا

لم تستطع تركيا أن تحيد عن إطار الأقواس المرسومة لها منذ 100 عام، فمفهوم القومية الذي أبرز أهمية مفهوم بقاء الدولة على حساب رفاهية المجتمع، أبقى على سطوة الدولة وسيطرتها الصارمة وفق نفس المنهاج والخط الذي دعا له ورسمه السياسي والعسكري التركي، كاظم قارا بكر.

لقد كان مصطفى كمال أتاتورك يمثل جناح تركيا العلماني، وكانت الجمهورية التركية تيمم وجهها صوب الغرب. وبعد حرب الاستقلال (1923-1919) عاش أتاتورك صراعا مع كاظم قارا بكر وفريقه، وقام مؤسس الجمهورية بتصفية هذا الفريق وفق أساليب صارمة، غير أن قارا بكر استطاع أن ينجو بحياته بأعجوبة.

لكن كان الخط الذي رسمه أتاتورك يشكل مزيجا بين السنية والقومية التركية. ويا ليت الخلاف الوحيد بين الفريقين كان وضعهما الإسلام تحت الضغط، وإبراز الحداثة إلى المقدمة. لكنهما وقعا في خلافات حول موضوعات عدة مثل إلغاء الخلافة، والسلطنة، والعلاقات مع العالم الإسلامي، ودور الدين، والمرأة في حياة المجتمع.

وكانت وجهات نظرهما واحدة في كل شيء بخصوص العديد من القضايا بدءا من المسألة الأرمينية وحتى القضية الكردية. المواجهة بين الجناحين اللذين خرجا من شرنقة “الاتحاد والترقي” (في إشارة لأتاتورك وقارا بكر)، فازت الحداثة في مرحلتها الأولى، لكن هذا الانتصار كان قد جلب معه نهايته في ذات الوقت.

وحقيقة الأمر أن الديمقراطية التي تعتبر أمرا استثنائيا في تاريخ الجمهورية التركية الممتد على مدار 100 عام، كانت في الأساس عبارة عن نظام وصاية وقمع يمثل القاعدة التي لا يمكن الخروج عنها بأي حال من الأحوال. والمرات النادرة التي شهدت فيها البلاد التعددية الحزبية، كانت فترات ذات عمر قصير للغاية. وكانت دائما وأبدا ما تنتهي باستبداد عسكري ما. ولا شك أن الديمقراطية كانت لا تؤتي أي نتيجة سوى بروز العناصر التي كان يرى فيها الهيكل الذي يقول إن الدولة ملكه، عدوة له.

ذلك الهيكل الذي يسمى بالأرغنكون أو الدولة العميقة، قضى على لعبة الديمقراطية في نهاية المطاف، وبات على قناعة بأن نموذج دولة السلطان عبدالحميد، حتما سينتهي بنظام استبدادي دكتاتوري قائم على خليط من القومية التركية والإسلام. ولعل مسرحية المحاولة الانقلابية في 15 يوليو 2016، كانت خطوة هامة من أجل تنفيذ هذا التحول.

تجدر الإشارة إلى أن “أرغنكون” بمثابة منظمة سرية تاريخها طويل تعود جذوره إلى القرن الماضي، أما عن تاريخ التأسيس الحقيقي للحركة فهو في عام 1999 كمنظمة سرية وأهم أهدافها هو “المحافظة” على تركيا كدولة علمانية وعسكرية وقوية كما كانت في عهد كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة بعد حملة من المداهمات في حي عمرانية بمدينة إسطنبول.

في سياق كل هذه السيناريوهات تم كذلك القضاء على مغامرة الاتحاد الأوروبي الذي كان ينظر إليه على أنه يسعى لتقسيم تركيا من خلال تغيير نظام الحكم فيها. كما بُذلت كافة الجهود الممكنة وغير الممكنة للحيلولة دون أن تكون للحركة السياسية الكردية الكلمة العليا على النظام الحاكم، في ظل النظام البرلماني، الذي تم استبداله بنظام رئاسي، دخل حيز التنفيذ مؤخرا.

وهناك الكثير من النماذج التي يمكن أن نسوقها على ذلك، ومنها تصريحات سابقة للأمين العام السابق لمجلس الأمن التركي، الفريق أول متقاعد تونجر كلينج، الذي طالب بالاستغناء عن الحلم الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي “ناتو”، واقترح إبرام تحالف مع كل من روسيا، والصين، وإيران.

لكن هذه العقلية وهي تقترح إقامة مثل هذه الشراكات، لم تكتفِ بوضع الدولة تحت حالة من الضبط والربط من خلال رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية. بل قامت في الوقت نفسه بتأسيس نظام رقابة مماثل على الأحزاب السياسية؛ لا سيما حزب الشعب الجمهوري. ولعل هذا هو السبب الرئيس للموقف المتناقض الذي تبناه الحزب الأخير عند الإعلان عن بيانه الانتخابي في 7 يونيو الماضي.

كما أن هذا كان هو السبب الحقيقي وراء امتناع مرشحي الشعب الجمهوري، وكادره الإداري عن إعلان عدم مشروعية الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، وتبنيهم موقفا يضفي مشروعية على نظام أردوغان. ويكفي لمعرفة هذه النقاط بشكل واضح، النظر عن كثب للكوادر التي تحيط برئيس الحزب، كمال كليجدار أوغلو.

لكن التاريخ الحديث لتركيا، يعج بسلسلة من النماذج تؤكد أن أي محاولات لإقامة نوع من الهندسة الاجتماعية للأوضاع في البلاد، محكوم عليها حتما بالفشل. فمثل هذه المحاولات دائما وأبدا ما تسفر عن نتائج مضادة للأهداف المرسومة والموضوعة.

وكما تعلمون، فإن النموذج الجديد في تركيا قائم في على أساس ديني عنصري، وعلى قاعدة تنفّر من كل معارض، فهو نظام حكم الرجل الواحد المنافي لكافة الأعراف. ولا شك أن هذا أمر من شأنه أن يلحق أضرارا بالغة بالعملية الديمقراطية، ناهيكم عن التطور الاقتصادي. ومن الممكن اكتشاف حقيقة ذلك بشكل جلي من خلال النظر إلى كادر المستشارين الاقتصاديين لأردوغان.

وهذا كله يؤكد لنا أن تركيا دخلت مرحلة من الإدارة والحكم تركت فيها عقلها وراءها، لا سيما مع نظام حاكم يرى نفسه أنه سيسيطر على العالم القوي؛ وذلك من خلال سلسلة من الأكاذيب التي يروج لها وهو في الأساس نظام محروم من أي قوة يزعم في كل آن وحين أنه يمتلكها.

هذا النظام سيظل قائما من خلال الاعتماد على أميركا، وروسيا، وألمانيا، شأنه في ذلك شأن عهد السلطان عبدالحميد. وأخيرا أقول إن المشهد العام للأوضاع واضح، وهو أن نهاية هذا الطريق ستكون مظلمة مفعمة بالظلم الذي بات يزداد يوما بعد يوم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحصول على أي نتائج أخرى غير ذلك. فالمنطق يقول إن النتيجة الحتمية لما نعيشه من أمور غير عقلانية، هي نهاية مأساوية لتلك الدولة، لأنه ليس من السهل بأي حال أن نستخرج ديمقراطية علمانية قائمة على العقل، من بين ثنايا البنية المجتمعية الحالية لتركيا.

6