الدولة العربية المعاصرة لصاحبها "ماد ماكس"

الأحد 2015/08/09

تقف فكرة الدولة العربية المعاصرة أمام تحدّ كبير. هو تحدّ تراكمي في أساسه أكثر منه ردّة فعل لحالة بعينها. هو أيضا امتحان للبقاء قد تعجز عن اجتيازه.

مرحلة تأسيس الدولة العربية الحديثة، بين الأربعينات والستينات من القرن الماضي، كانت مرحلة الآمال الكبيرة. لوهلة، كان ثمة ما يكفي من الآمال والطموحات لدى الشعوب ولدى القادة على حدّ سواء في أن يتمّ تأسيس بنى وآليات تستطيع أن تواكب مرحلة ما بعد الاستعمار. ورغم تناهب فكرة الاستحواذ على العقول والمصائر بين الأحزاب والشخصيات من اليمين واليسار، إلا أن الإجماع على حتمية الدولة الوطنية الحديثة كان سائدا.

بِركة الواقع كان لها شأن آخر. كل من مرّ على منطقتنا، من أهلها ومن خارجها، كان يرمي حجرا أو حصاة في هذه البركة. لم نكن نرى هذا الحجر. كان يغوص في عمق مياه الآمال والتطلعات وأيضا أموال الريع النفطي. ولكن الحجر كان هناك.

في مرحلة مفصلية، ربما بنهاية السبعينات، وصل الخميني إلى حكم دولة كبيرة مثل إيران حوّلها بثورة دينية مموّلة بمال نفطي لا ينتهي، إلى قاعدة لزعزعة الاستقرار. التحدّيات الداخلية التي تدّعي احتكار الدين كتلك التي جاء بها أمثال جهيمان العتيبي في حركته لاحتلال الحرمين، كانت بدورها ترمي المزيد من الحجارة في البركة. كان تراكم الحجارة الصغيرة قد بلغ حدّا ما عادت البركة قادرة على إخفائه. كان كل حجر جديد يرمى في البركة يصبح مرئيا. هكذا نكون قد وصلنا إلى فوضى الربيع العربي وكوم الحجارة بارز وواضح فوق البركة.

الإسلام السياسي الذي تأسس أخوانيا وأينع خمينيا، تحوّل إلى قوة أساسية في تفكيك الدولة الحديثة. في البدء كان قوة موازية تتخفى خلف تقية المساهمة الخيرية لتنخر في كل ما يرمز للدولة. كلما زاد ضعف الدولة وعجزها عن التأقلم مع التغيرات الكبيرة والعجز في التنمية التي تواكب الزيادات السكانية، كلما تقدّم الإسلام السياسي. يعرض هذا الإسلام البديل حلولا بسيطة ومباشرة: مستوصف وكيس مشتريات رمضانية ومدارس دينية. غيّر هذا الإسلام البديل وجه المدينة العربية تماما. اكتسى ببرقع من كابول أو شادور من قم. كل هذا والدولة المترهلة تزداد عجزا.

تخطيط: ساي سرحان

غرائزية العلاقات الجديدة التي أتت بها حركات الإسلام السياسي تشبه تلك التي كادت تمزق الدولة الإسلامية الناشئة في مرحلة تأسيسها الأولى. القبائل التي خرجت للفتوحات، وجدت نفسها في مواجهة بعضها البعض في البصرة والكوفة. فما كان تواجدا بشريا على مساحة الجزيرة العربية، صار حشرا في مستطيل في الكوفة يحدّه الفرات ويمتد بأبعاد لا تزيد عن أبعاد بلدة صغيرة. المسببات التي كانت تجعل القبائل تتقاتل في ما بينها على امتداد الصحراء العربية، هي نفس المسببات لصراعات قبائل صارت تتكوّم فوق بعضها البعض في قدر الضغط.

ما إن توقفت الفتوحات وغنائمها وتراجع خطر العدو المشترك، حتى انفجرت الحروب الأهلية الإسلامية. القوى القبلية الطاردة التي أتت بها القبائل من الجزيرة، أضيف إليها البعد القومي الفارسي والبعد الطائفي. غزوات القبائل صارت تحمل مسميات إضافية: عرب-فرس أو سنة-شيعة-خوارج. زاد عدد الناس وقلّ ريع الفتوحات فتحاربوا وقتلوا بعضهم البعض. الدولة الإسلامية الحديثة في حينها، ذات الآمال الكبيرة، تحوّلت بتراكم الحصى والحجارة في بركة الواقع، إلى مشروع حروب مستمرة.

ربما يستطيع مؤرخ محترف أن يأتي بعدد المرات الذي تكرر فيها سيناريو صعود وسقوط أحلام الدولة الحديثة. ولكن يكفينا أن نرى ما آل إليه حال عصرنا الراهن.

منذ السبعينات تتحرك القوى الطاردة. ما عاد ريع النفط قادرا على تغطية العيوب. ما عاد ريع النفط يكفي لإطعام كل هذه الأفواه.

دول الحواضر التي كان الآخرون يراهنون عليها، هي الدول التي ذهبت إلى الكارثة مبكرا. غرور القيادات فيها، في بغداد ودمشق، عجّل بالأمر. الدولة العربية الحديثة تحتضر في العراق وسوريا. القوى الطاردة حوّلت المشهد هناك إلى ما يشبه الصور التي كنّا نراها في الأفلام القيامية التي سادت في الثمانينات. كل شيء خراب.

القوى الإخوانية والسلفية المتشددة والخمينية صارت تتحكم في حياة المنطقة، أو في موتها على وجه أدق. لا نرى اليوم في أفلام نتناقلها على يوتيوب من قتل وحرق لميليشيات سنية أو شيعية ما يختلف كثيرا عن تلك المشاهد من جزأيْ فيلم “ماد ماكس-ماكس المجنون”. سيارات غريبة ومسلحون بأوجه ملتحية وأقنعة، كل ما يريدونه من المقابل هو أن يقتلوه.

“ماكس المجنون” صار علامة المنطقة المميزة ويتربع باستحقاق على كومة الحصى والحجارة التي غطت معظم أركان بركة الدولة العربية المعاصرة.

كاتب من العراق مقيم في لندن

11