الدروس الخصوصية في تونس.. ضرورة أم حيلة لصوصية

تتكرر بيانات التحذير الصادرة من وزارة التربية والتعليم في تونس، مع بداية كل عام دراسي، بأن الدولة ستقف بقوة ضد ظاهرة الدروس الخصوصية (دروس الدعم والتقوية) خارج المؤسسات التربوية. لكن المدرسين والأولياء والتلاميذ يعرفون جميعا أن الوزارة لن تنفذ تهديدها، وهو ما يفسر توسع نشاط هذه الدروس بشكل علني وفي أماكن كثيرة.
وصار المدرسون، وغير المدرسين، ينشرون إعلانات في الأماكن العامة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتزايدت أعداد من يقدمون الدروس على حسابات في فيسبوك، ودخلت على الخط المنصات الافتراضية التي باتت تمثل مدارس افتراضية تتفوق على المدارس الحكومية بمعيار النتائج في المناظرات الوطنية الثلاث (السادسة، والتاسعة، والبكالوريا).
تنظر الوزارة إلى الأمر بمعيار هيبة الدولة وضرورة فرض الانضباط، ما يجعلها تبدو خارج الموضوع كليا. قد تحاول استرضاء الرأي العام، وبعض الانتقادات التي تصدر من هنا أو هناك من أولياء يلهثون بأنفسهم وراء دروس التقوية ثم يشتكون أعباءها.
الدروس الخصوصية ظاهرة تشكلت وتضخمت بسبب عدة أسباب، وإذا أرادت الحكومة محاصرتها، فعليها أن تعالج الأسباب. وقبل مهاجمة النزعة المادية التي باتت تسيطر على المدرسين والتحسر على “ناس زمان” من المربين الذين كانوا يفنون أعمارهم في خدمة التعليم وتقديسه دون أن يربحوا شيئا ذا قيمة، وحتى دروس التقوية كانوا يقدمونها تطوعا ليروا نتائج تليق بهم هم قبل غيرهم. قبل هذا كله على الوزارة أن تلتفت إلى بيتها الداخلي وتسأل: لِمَ يهرب التلاميذ والأولياء إلى الدروس الخصوصية.
◙ الدروس الخصوصية ظاهرة تشكلت وتضخمت بسبب عدة أسباب، وإذا أرادت الحكومة محاصرتها، فعليها أن تعالج الأسباب
الجواب واضح، وهو أن مستوى التعليم العمومي تراجع كثيرا، والوزارة تتهرب من إصلاحه، لأنها لا تعرف من أين تبدأ إصلاحها في غياب مقاربة واضحة للمستقبل. والحل في نقل الضغط إلى المدرسين، الذين يكرههم المجتمع من باب يشبه الحقد الطبقي. كراهية المدرسين تتيح للجميع أن يتبرأ من المسؤولية، أولياء، ومسؤولين محليين وجهويين، ومتفقدين (مفتشين) ووزارة. تماما مثل الشجرة التي تحجب الغابة.
لو كان التعليم العمومي ذا جدوى ما وجدت الدروس الخصوصية وما توسعت حتى صارت أكبر من الوزارة وتحذيرات الوزراء المتعاقبين. من المهم أن تعالج الوزارة بيتها من الداخل، وتسعى إلى معالجة جذور الأزمة. هناك برامج قديمة تحتاج إلى تطوير وتحيين، وأكثر من ذلك يجب أن تتخلى الدولة عن تعليم “الأخذ من كل شيء بطرف”، وذلك بإغراق التلميذ بمواد كثيرة تجعله عاجزا عن الإلمام بها كلها وفهمها، وبدل أن يتميز يصبح هدفه هو امتلاك الحد الأدنى، خاصة أن كل المواد مهمة في تقييم المستوى ومنح الأعداد.
الأخذ من كل شيء بطرف يساوي في القيمة بين الرياضيات واللغات والمواد الاجتماعية وحصص الفنون والرياضة، فالمدرّس يجد نفسه مجبرا على تقديم محتوى كل مادة حتى لو في 10 دقائق، المهم أن ينفّذ ما يطلب منه بقطع النظر عن أهميته في المستقبل. تستوي عنده الرياضيات والإنجليزية والفرنسية والعربية مع الرسم والموسيقى وزراعة حبات الفول في أصص لاختبار ملكة التفكير والإبداع عنده.
من حق الوزارة أن تفتح ذهن التلميذ على المكاسب التعليمية الحديثة، وأن تنوع ثقافته وذوقه، لكن ليس بإغراقه بالمواد فيعجز عن استيعاب أغلبها. ليس هناك شك في أهمية الفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح والتربية المدنية والإسلامية والرياضية والتكنولوجية والتاريخ والجغرافيا، لكن هل يقدر تلميذ الابتدائي أو الإعدادي أن يأخذ من هذه المواد كلها بطرف، وماذا سيفيده هذا الطرف؟
سيكون مطلوبا من التلميذ بذل جهد خارق للتميز، في ظل توقيت وتقسيم للحصص يقوم على المساواة في المواد بين الأساسي والثانوي. الحل وجده الأولياء في الدروس الخصوصية. الهجوم على المربين وتحميلهم المسؤولية والتحريض عليهم لا يلغي حقيقة أن برامج الوزارة وفكرتها في تخريج تلميذ كثير المعارف دون تميز هي السبب في تغذية ونشر الدروس الخصوصية، فضلا عن لهفة الأولياء عليها لكونها البوابة الوحيدة للتميز، ودراسة اختصاصات جامعية متطورة تقود إلى الحصول على شغل في الداخل والخارج، حتى لا ينضم أبناؤهم إلى طابور البطالة.
قبل عام من الآن، أشارت دراسة بعنوان “إنفاق المجتمع على التعليم: بين وهم المجانية والإرهاق المادي للعائلات” إلى أن 67 في المئة من تلاميذ الابتدائي يتلقون دروسا خصوصية، وأنّ 83 في المئة من محتواها يأتي لتدعيم ما يتلقّاه التلميذ في القسم.
وكشفت الدراسة التي أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ 51 في المئة من الدروس الخصوصية يدرّسها مدرّس القسم نفسه، وهو ما يمنعه القانون، وأن “كل التلاميذ بلا استثناء يتلقون دروسًا خصوصية في مادة على الأقل في الإعداديات النموذجية، وبالتالي فإنّ عملية تقييم التلميذ لم تعد قائمة على القدرات المعرفية والتربوية بل مبنية على القدرة المادية للتلميذ،” مؤكدة أنّ الدروس الخصوصية يطلبها الولي لتحسين مستوى أبنائه، ويقوم بها المدرّس لتحسين وضعه المادي.
◙ سواء استمرت الوزارة في مطاردة الدروس الخصوصية وتحميلها المسؤولية أم لا، فإن الوقت قد حان لتتخذ خطوة أولى في إصلاح التعليم
وهذا استنتاج مهم، فالجميع يطلب الدروس الخصوصية ويريدها، وليس ثمة داع لاتهام جهة دون أخرى بالاستفادة منها لتحسين منظومة التعليم بعد أن باتت إمكانيات الدولة وقدراتها عاجزة عن تأمينها كما كان يحصل في الثلث الأخير من القرن العشرين. هناك اكتظاظ كبير في الفصول (بعضها يصل أربعين تلميذا)، لأن الإمكانيات لا تسمح ببناء قاعات جديدة في المؤسسات التعليمية القديمة. كما أن الدولة لم تعد قادرة على توظيف أعداد كبيرة من المدرسين لتأمين نظام أقسام يوجد فيه ثلاثون تلميذا وأقل من ذلك.
وسواء استمرت الوزارة في مطاردة الدروس الخصوصية وتحميلها المسؤولية أم لا، فإن الوقت قد حان لتتخذ خطوة أولى في إصلاح التعليم، وهي القطيعة مع إغراق التلميذ بمواد كثيرة. فتمكن المزاوجة بين نظام سابق كان يدرس ثلاث أو أربع مواد لتلميذ الابتدائي وبين النظام الحالي الذي يدرس مواد كثيرة. وممكن التركيز على الرياضيات والإيقاظ العلمي أو العلوم الطبيعة واللغات في الدرس الرسمي، ثم العمل بنظام النوادي مساء الجمعة ويوم السبت لتدريب التلاميذ على المواد الفنية من تشكيلية وموسيقى وتكنولوجيا وكذلك الرياضة كل حسب اهتمامه، وهكذا يكسب التلميذ من الواجهتين.
ومن المهم أن تتدارك الوزارة فكرة استنساخ تجارب الآخرين في إصلاح التعليم بالسير وراء التجربة الفنلندية أو ما يعرف بمقاربة الكفايات. فلكل دولة ظروفها وثقافتها وإمكانياتها. وتونس تحتاج أن تضع لنفسها طريقا يتماشى مع خصوصياتها وإمكانياتها البشرية والمالية.
طبعا هذا قرار لا تقدر الوزارة أن تأخذه بنفسها، وهو يحتاج إلى إصلاح التعليم كخيار من الدولة خاصة بعد الإعلان عن تكوين المجلس الأعلى للتربية، الذي نأمل أن يكون فضاء حقيقيا لملامسة مشاكل التعليم، وألا يكون هيكلا فوقيا يكتفي بإطلاق التصريحات الكبرى عن إصلاح التعليم، دون الخوض في الشروط الموضوعية التي قادت إلى تراجع المدرسة العمومية، ومن بينها الوضع الاجتماعي للمعلمين والأساتذة، وفهم خلفيات الدروس الخصوصية، وعدم ترك هذا المجلس للعبة تقاسم النفوذ بين الوزارة والنقابة مثلما حصل في لجان سابقة.
في السنوات الماضية كان إصلاح التعليم مزادا سنويا للشعارات لكن من دون التحرك ولو خطوة واحدة. والسبب أن الوزارة لا تمتلك رؤية ولا تريد أن يقال إنها هي من قدمت المقترحات وفرضتها فتحاسب على الفشل، ولذلك كانت الحيلة التي اعتمدها الوزراء السابقون هي تحويل الإصلاح إلى مهمّة جماعية تشترك فيها النقابات كطرف رئيسي وتأتي بخبراء من صفّها فيما تكتفي الوزارة ببعض إدارييها للمشاركة في استعراض الإصلاح، والجميع يعرف أن الأمر لا يتجاوز اللعبة السياسية.