"الخلدان الصماء" رواية عن المجتمعات الصامتة وضحاياها

الحيوات السريّة، الخفيّة والمسكوت عنها خوفا من العار أو ضياع الشرف، هي التي تحكم الشخصيات في ضيعة "كفر شوبا" جنوبي لبنان، هذه الحيوات تتقاطع وتتداخل في فضاء القريّة، تتخللها الخيانات والحب والجاسوسيّة، ضمن صيغة من العلاقات يقدمها الكاتب الشاب عبدالحكيم القادري في روايته الأولى "الخلدان الصمّاء"، الصادرة هذا العام عن دار نوفل- هاشيت أنطوان، حيث يحكي القادري قصص حياة ونينار وندى ولمياء والذكور من حولهم الذين طعنوا أنوثتهن وقدموهن لمذبح الشرف.
الثلاثاء 2015/10/20
عبدالحكيم القادري يصور المجتمع الذكوري

يلجأ عبدالحكيم القادري، في روايته “الخلدان الصمّاء” إلى عدد من الآليات لسرد الحكاية، كي نصل في النهاية إلى الذروة التي تتشابك عندها الأحداث، فتتكشف الحلول ومواقف الشخصيات تجاه المصائر الجديدة التي ستواجهها.

ففي البداية نقرأ مذكرات فتاة اسمها حياة تعيش في دير للرهبان، وتبقى هذه الشخصية مجهولة العلاقة مع الآخرين بالنسبة إلينا، لنكتشف لاحقا أنها ابنة ندى، التي حملت من عمر ثم هرب منها، لتلقى الضرب والعار من أهلها ثم تتمكن من الهرب منهم ليلة ولدت ابنتها حياة لينتهي بها الأمر كمغنية في ناد ليلي.

عمر ذاته والد حياة، نكتشف أنه جاسوس إسرائيلي، يقتل صديق عمره هاني، ثم يعود إلى إسرائيل التي ينتمي إليها بحكم زوجته التي تعرف عليها عندما كان شابا يعمل في الموانئ الأوروبيّة، إذ جندته هو الشاب اللبناني ليكون جاسوسا لإسرائيل ثم وقعت في حبه، عمر نفسه وقبل أن يترك ندى معلقة الأقدار يقتل نينار التي هامت في حبه وكشفت علاقته مع إسرائيل ثم أصابها الجنون لعدم زواجه منها، رحيل عمر لم يؤثر على مجرى الحكاية بصورة جوهريّة.

فالحبكة الثانية التي تقود الأحداث مرتبطة بأخت ندى لمياء، التي تتزوج من هلال وتتحمل مزاجيته، لتكتشف لاحقا وبعد أن التقت بندى في النادي الليلي بمخطط من هلال أن هذا الأخير متحرش بالأطفال، ومطلوب للعدالة، اكتشافها الأخير هذا جاء بعد أن تأخذ حياة من الدير إلى منزلها وتربيها كابنتها سوسن، إلا أن مرضها العصبي واكتشافها أن هلال يتحرش بحياة يدفعها لإبلاغ الشرطة عنه، لكنه أثناء هربه من المنزل يطلق النار على ابنته سوسن التي تموت ثم يهرب مع حياة التي تدخل في غيبوبة بعد إلقاء القبض على هلال وتحريرها منه، لتبقى أمّها ندى بانتظار استيقاظها نادمة على كل ما فعلت.

قصص المصائر المشؤومة لسكان قرية في جنوب لبنان

مصادفات مفتعلة

بالرغم من أنها المحاولة الروائية المنشورة الأولى للقادري، إلا أن الحكاية التي قدمها تبدو متسقة وفق بنية أفقية لا يمكن لشخصياتها أن تحتمل مصائر مغايرة، فالشخصيات لا يمكن لها أن تكون إلا كما هي، ومصائرها محكومة حتميا.

كما أن جميع الشخصيات تحاكي النماذج النمطية التي نقرأ عنها ونعرفها، إلا أن ما يثير الانتباه في الرواية وأحيانا بصفة مفاجئة، المصادفات المتكررة التي تحكم سير الأحداث، بحيث تبدو حيوات الأشخاص غير محكومة بدوافعها الداخلية، بل بما يحيط بها، ويمكن تبرير ذلك في بعض الأحيان.

إلا أن كثرة المصادفات تدعو إلى التساؤل، وخصوصا في ما يتعلق بالمرأة، فهي مهزومة لا تأخذ قرارها، بل مصادفات الخارج الذكوري هي التي تسيّر حياتها، وكأنها تساق حتما نحو المصير المحتوم، هذا الموقف من المرأة يتضح في عناوين الفصول “الحجر الأول، الحجر الثاني…” في إحالة إلى الرجم، وكأن الرواية بأكملها تحاكي عقوبة الرجم بوصفها العقاب، ودائما تكون المرأة تحت طائلة اللوم فيه نتيجة تكالب الذين من حولها عليها، ولكونها ضحية لشهوة الرجال كحالة ندى أو نينار اللتين فقدتا كل شيء أمام رغبة الرجل التي اجتاحتهما جسديا ونفسيا.

الرواية تقدم المرأة ضمن وضعية الضحية حتى آخر صفحة، فمساحات الأمل ضيقة ومعدومة، بل وحتى النضال من أجلها ينهار، فندى التي نراها في النهاية إلى جانب ابنتها المغتصبة والتي دخلت في غيبوبة، تشاهد عودة عمر إلى لبنان على التلفاز بوصفه يريد أن يصبح نائبا، وكأننا أمام رحلة جديدة لنضال في سبيل الانتقام، أو أن المصادفات لا بدّ لها أن تحدث، والبحث عن مبرر لهذه المصادفات يبدو ضربا من العبث، كل ذلك في سبيل الإبقاء على حالة التشويق ضمن الرواية، وكأن الكاتب يمسك بتلابيب الشخصيات في سبيل تحريكها ليبدو التشويق أحيانا مفتعلا دون أن تنمو الأحداث بصورة طبيعية، خصوصا أن هناك فترات زمنية كبيرة أحيانا تفصل بين الأحداث.

الجاسوس اللطيف

تحضر في “الخلدان الصماء” حكاية عمر، الشاب اللبناني الذي تحول إلى جاسوس، وهي تحمل بعض التناقض، فمشكلة الانتماء لديه تبدو بسيطة، بل ويتجاوزها بخفة بتأثير من زوجته الإسرائيلية التي هام بها، كذلك حال صديقه هاني الذي ينخرط أيضا في اللعبة، كذلك نرى السهولة في تسلله وعمله وإنجاز مهمته، ثم عودته إلى إسرائيل لينتقل بعدها مع زوجته وابنه إلى لبنان مرة أخرى ليكون مرشحا للمجلس النيابي، تبدو الرسالة هنا واضحة في العلاقة مع السياسة اللبنانية، وخصوصا أنه من الجنوب.

الإحالات السياسيّة التي يتخذها موقف الجاسوس اللبناني، لا يمكن إلا أن تحمل مرجعيات وتأويلات سياسية ترتبط بهذه الشخصيّة، كذلك التناقض الذي يحمله بين اللاإنسانية والإنسانية المفرطة ويتنقل بينهما في علاقته مع لبنان وشخوصه وإسرائيل وشخوصها، فهو يبدو نذلا أحيانا وأحيانا مثيرا للشفقة، هذا التحذلق الذي يبديه عمر مرتبط بكونه يحمل خصائص الشخصية البوليسيّة ضمن فضاء القرية.

14