الخطاب المسجدي في الجزائر يبحث عن نفسه في ذروة الأزمة المركبة

استنجدت الحكومة الجزائرية ككل مرة بالمؤسسة الدينية لتهدئة الشارع المستاء من تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غير أن الخطاب الديني فقد مصداقيته بالنسبة للشارع في ظل تماهيه مع السلطة وغضه النظر عن ممارسات رموزها وعدم اتخاذها تحركات جدية إزاء الحملات الممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعمل على تذكية الأحقاد العرقية والجهوية بين الجزائريين.
الجزائر- دفعت مجددا فصول الأزمة المتراكمة في الجزائر، وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، لتوظيف المنظومة الدينية في احتواء صروف وتداعيات الأزمة المركبة، ليجد الخطاب المسجدي نفسه مرة أخرى أمام امتحان جديد لإقناع الجزائريين بالمقاربات السياسية والاجتماعية التي تتبناها السلطة، رغم أن الخطاب المذكور فقد مفعوله في أوساط الشارع، بسبب أزمة الثقة المستشرية في البلاد.
ورمت التطورات الأخيرة بثقلها على الوزارة الوصية، فأخرجتها مجددا من أجل توجيه رسائل لم يعد من السهل تمريرها، نظير الفجوة العميقة بين خطاب السلطة والشارع، حتى لما يتعلق الأمر بكوارث طبيعية وصحية وأضرار اجتماعية.
ولأن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف هي الوصي الأول على الجانب الديني والروحي في البلاد، ويقع في يدها 99 في المئة من السكان المسلمين بحسب إحصائيات رسمية، وأكثر من 24 ألف مسجد وزاوية والآلاف من الموظفين، فإن الحكومة تعتبرها آلة دعائية في مختلف المسائل الاجتماعية والجماعية، وصاحبة نفوذ في الملايين من الجزائريين، حيث يرتاد 19 مليونا أسبوعيا المساجد لأداء صلاة الجمعة حسب نفس الإحصائيات.
غير أن سياسة توجيه الخطاب المسجدي نحو مرجعية موحدة وربطها بمقاربات السلطة، بدعوى الحفاظ على الأمن الديني وتحييد المؤسسات المسجدية عن الممارسة السياسية والحزبية، وحمايتها من تغلغل التيارات والمذاهب المستجدة في البلاد، لا يستقيم مع تحويلها إلى آلة دعائية لما يتعلق الأمر ببعض الاستحقاقات الانتخابية والسياسية التي تتخوف السلطة دائما من عزوف الشارع عنها، الأمر الذي أفقد ذلك الخطاب صدقيته وتأثيره على الملايين من المرتادين.
وجاءت موجة الحرائق المروعة التي أودت بحياة أكثر من 150 شخصا، وأتلفت نحو 60 ألف هكتار، ثم الجريمة الفظيعة التي راح ضحيتها الشاب المتطوّع جمال بن إسماعيل، تنكيلا وسحلا وحرقا وذبحا، بالموازاة مع تنامي خطاب عرقي واثني أنذر بفتنة اجتماعية، وقبلها أزمة الموجة الرابعة من وباء كورونا الذي أحدث حالة هلع غير مسبوقة بسبب ارتفاع الإصابات والوفيات، لتخرج وزارة الشؤون الدينية مجددا من أجل تهدئة الوضع وجبر الخواطر والتنفيس من الضغط الذي تعيشه الحكومة.
وشددت في بيان لها على ضرورة “التمسك بوحدة المجتمع الجزائري، وهي وحدة عميقة عمق تاريخِ هذا الشعب وأصالتِه الممتدة عبر الزمن الحافل بالأمجاد، وهي وحدة صنعها السلف من الآباء والأجداد، ويحافظ عليها الخلف من الأبناء والأحفاد، لتقوى عراها التي التحمت فيها مقوِّمات الهويةِ الوطنيةِ؛ الإسلامُ، والعربيّة والأمازيغيّة، فوق أرض الجزائر، وتحت سمائها”.
وعادت إلى موروث رجل الإصلاح الاجتماعي والديني عبدالحميد بن باديس، وذكّرت بما جاء على لسانه، بأن “أبناءَ يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت تلك القرون، تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلِّف بينهم في العسر واليسر، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كوَنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا، أمه الجزائر، وأبوه الإسلام، وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتِحادَهم على صفحات هذه القرون، بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف”.
وذكرت بأن “زرع الفتنة، والتفريقَ بين المجتمع الواحد من أكبر المعاصي، فإذا كان قتل الأرواح جريمة عظمى، فإن زرع الفتنة ونشرها والترويج لها، بل وتمنيها أكبر من ذلك وأشد، وأن أعضاء اللجنة الوزارية للفتوى يهيبون بأبناء الجزائر أن يتصدوا لأي محاولة تستهدف المساس بالوحدة الوطنية والتفريق بين أبناء الشعب الواحد، فإن هذا واجب شرعي والتزام وطني، ونحن على يقين بأن كل هذه المحاولات العدائية البائسة اليائسة ستتعرى وستكسرها في مهدها، بفضل يقظة الشعب، وصدقه في دينه ووطنيته، وحبه لدينه”.
وأضافت “بل لا تزيد كل محاولة للتفريق بين الجزائريين إلا شدة في اتحادهم، وقوة لرابطتِهم، والإسلامُ له حارس، وقد تجسد ذلك جلِيا في موقف أسرة جزائرية أسهم فيها الابن المغدور في إطفاء النيران الملتهبة، واجتهد أبوه في وَأد الفتنة المخطَطِ لها، وقد أدرك بفطرة المؤمن الصابر والمواطن الصالح بأن الفتنة نائمة وملعون من أيقظها”، وذلك في إشارة إلى والد الشاب المتطوع، الذي رفض تحويل مقتل نجله إلى تصفيات ومواجهات عرقية بين الجزائريين، وسمح موقفه بسحب الذريعة من الأطراف التي كانت تريد استغلال الحادثة لمباشرة تصفيات وانتقامات.
وفيما يوحي خطاب وزارة الشؤون الدينية، إلى المخاوف التي تؤرق السلطة من تفاقم خطاب الكراهية والأعراق ومن أخطار الانزلاق الاجتماعي، فإنها حافظت على نفس آليات ومفردات الخطاب الكلاسيكي، ولم يواكب وسائل كسب ثقة الرأي العام، ولم يستعن بالخبراء في علمي الاجتماع والنفس والإعلام، الذين بإمكانهم تقديم مقارباتهم في المسألة، ولو أن القضية تحمل أبعادا متشابكة ويطغى عليها الجانب السياسي.
وأكبر ما يطعن في صدقية خطابها، أن الوزارة المذكورة لم تبد أي موقف، لما كانت حملة التأليب والتشويه والشحن، تدار على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي وبعض المنصات والمنتديات، ولما كانت شبكات تضطلع بالمهمة بإيعاز من جهات مقربة من السلطة، بحسب تقرير شركة فيسبوك لشهر يونيو الماضي، الذي ذكر بأنه أغلق أكثر من 260 حسابا ومجموعة مقربة من دوائر السلطة كانت تعمل على إذكاء الأحقاد الجهوية والعرقية في البلاد، وحسب تهم وجهت لجنرالين في الجيش، الأول مدير الأمن الداخلي السابق واسيني بوعزة، والثاني الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني، حول وقوفهما وراء حملة خطاب الكراهية والفرقة بين أبناء الشعب.
الحكومة تعتبر وزارة الشؤون الدينية والأوقاف آلة دعائية في مختلف المسائل الاجتماعية والجماعية، وصاحبة نفوذ في الملايين من الجزائريين
وحضت الوزارة أئمة المساجد، على التذكير بأن “الإفساد في الأرض من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وخصوصا إذا كان في ذلك إزهاق للأرواح، واستنزاف لمقدرات الأمة وخيراتها، وهو عنوان لأسوأ ما يمكن أن يقعَ فيه الإنسان من التولي عن مقتضيات العقل والفطرة والشرع والقانون، لما ينطوي عليه من منهج سقيم، وسلوك قبيح، ممجوج محرم”.
لكن المرتادين الذين ألفوا خطاب التماهي مع مقاربات السلطة والتستر على الحاكم بشكل عام، لم يعد أغلبهم يقبل بتلك الدعوات ليس لعدم مشروعيتها، وإنما لأنها ترد على لسان لفيف صار آلة دعائية لفائدة السلطة، أكثر منها تنوير ديني أو توجيه اجتماعي، لاسيما وأن نفس الإفساد والكبائر ارتكبت وترتكب من طرف رموز السلطة وأعوانها لكن الأئمة يغضون الطرف عنها.