الخزين المائي قضية أمن قومي لتونس

بعد انقضاء أكثر من عامين على إمساك الرئيس التونسي قيس سعيد بالصلاحيات الكاملة لإدارة السلطة يفترض الآن أن تبدأ تونس بمعالجة القضايا الإستراتيجية التي أهملت منذ ثورة 2011 لاعتبار أساسي أن الطبقة السياسية الوافدة على الدولة كانت تفكر فقط في إدارة السلطة عبر مسار لا ينتهي من انتخابات على كل لون وإصلاحات وقوانين ودساتير حتى غلب اليأس على الناس من أن تقود الثورة إلى تغيير حقيقي في حياتهم.
الفرصة الآن مواتية لوضع إستراتيجيات لحل القضايا التي لا تقبل التأجيل. ولكن بتفكير وخطط بعيدة المدى، وليس بقرارات متسرعة للإيحاء بأن الدولة تمتلك الحلول السحرية. صحيح أن الناس يطربون للقرارات السريعة، وهو أمر لا يقدم ولا يؤخر في ملف مثل ملف المياه في ظروف الجفاف التي تعيشها البلاد.
سيكون من المهم في البداية أن تنفذ الحكومة تعهداتها بشأن تقليص الاستهلاك والحفاظ على الخزين المائي في حدوده الدنيا، سواء في السدود أو تحت الأرض، لكونه قضية أمن قومي مثله مثل الأمن الداخلي وحماية الحدود.
تونس بلد حضري بملايين من التونسيين يعيشون في المدن ويستهلكون كميات كبيرة من الماء، وأحيانا ببذخ كبير غير مفهوم، خاصة أن الدولة عوّدتهم على توفير مياه الشرب بشكل دائم شتاء وصيفا على عكس بلدان إقليمية أخرى تمكن مواطنيها من الماء في أوقات محدود باليوم.
لكن تونس في حاجة إلى الزراعة أكثر من أيّ وقت مضى، والإستراتيجية المائية التي يشارك فيها الجيش الآن والتي هي من اهتمامات الرئاسة تحتاج إلى إعادة نظر شاملة تقطع مع الاستسهال ومع التبذير وتركّز على ما ينفع الناس على المدى البعيد.
◙ سيكون من المهم في البداية أن تنفذ الحكومة تعهداتها بشأن تقليص الاستهلاك والحفاظ على الخزين المائي في حدوده الدنيا، سواء في السدود أو تحت الأرض
وقضية التبذير في استهلاك المياه هي جزء من ثقافة عامة لدى التونسيين تقوم على فكرة أن الدولة مسؤولة عن كل شيء، وهي التي يجب أن تتدبر أمرها في توفير الخدمات المختلفة، وأن توفر الغذاء والمواد الاستهلاكية الضرورية حتى لو كانت هناك أزمة عالمية وحرب بين روسيا وأوكرانيا تمنع تصدير الحبوب من أهم بلدين منتجين للحبوب في العالم.
عليها أيضا أن تتدبر أمرها في توفير المياه نزلت المطر أم لم تنزل. هذه الثقافة عليها أن تتوقف، والأمر بيد الدولة التي تأخذ القرار ثم تلغيه أو تؤجل التنفيذ، فهي لا تريد أن تبدو عاجزة أو ضعيفة، وتخاف من الاستثمار السياسي. والأجدى أن تفكر في المستقبل، فالماء لم يوجد فقط للاستهلاك الفردي، ومن المهم أن تهتم الدولة بالزارعة وتضع الخطط التي تمكّنها من تأمين الغذاء على المدى البعيد مع تأكيد الدراسات العلمية أن المنطقة ككل مقدمة على فترات جفاف طويلة.
قبل أشهر، قالت وزارة الفلاحة التونسية، إنها قررت الاعتماد على نظام الحصص في توزيع المياه الصالحة للشرب، ومنع استعمالها في الزراعة وغسل السيارات وريّ المسطحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامة. وحذرت من أنّ كلّ مخالف لمقتضيات هذه القرارات يعرّض نفسه لعقوبات تتراوح بين الغرامات المالية والعقوبات السجنية التي قد تصل إلى 6 أشهر.
نظريا هذه القرارات جيدة وتظهر الوعي بدقة المرحلة، لكن تنفيذها ظل معلقا باستثناء قطع المياه ليلا عن المشتركين في بعض الأماكن ولفترات محدودة، وهو ما يجعل الناس يزيدون من الاحتجاج بدل أن يشعروا بأن البلاد مقبلة على تغييرات كبيرة.
ولا يمكن أن يشعروا بذلك مع ما لم يلمسوا تلك الإجراءات في حياتهم اليومية وبشكل دائم مع حملات التوعية والتحسيس والمصارحة في الإعلام بوجهيه التقليدي والجديد.
وضمن هذه المصارحة يمكن توظيف ما قاله الرئيس المدير العام السابق للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه مصباح الهلالي، من خلال تأكيده أن “كميات المياه المتوفرة في الوقت الراهن تغطي 16 ساعة فحسب في اليوم”، هذا والبلاد ما تزال في المرحلة الأولى من سنوات الجفاف التي قد تطول.
ويحتاج الخطاب الرسمي أن يربط في التواصل مع الناس بين أزمة مياه الشرب وتقلص الكميات في المدى القريب وبين موضوع الزراعة، أي أن الدولة إذا استمرت في تبديد الخزين المتراجع أصلا لترضية الناس والحفاظ على وضع لا يتأثر فيه الاستهلاك الفردي للمياه، فهي ستخسر فرصة توفير الغذاء لهم من الإنتاج المحلي، وأن الأمن الغذائي على المدى البعيد سيكون مهددا كليا.
يعرف التونسيون أن الجفاف ضرب الزراعة بقوة، وأن الدولة تستورد الحبوب مع أن تونس بلد منتج وكانت توفر أكثر من نصف حاجياتها بسهولة. ويعرفون أنها باتت تضطر لتوريد الخضروات من دول قريبة مثل مصر. والأمر لا يمكن تفسيره فقط بالجفاف، وإنما لأن الدولة لم تستعدّ لذلك بشكل جيد خاصة في السنوات الأخيرة، حيث تعطلت حركة بناء السدود الكبرى والمتوسطة بعد ثورة 2011 وغرقت البلاد في معارك هامشية وأوقفت خططا حكومية سابقة لتجميع وتخزين مياه الأمطار للشرب والسقي.
◙ تونس في حاجة إلى الزراعة أكثر من أيّ وقت مضى، والإستراتيجية المائية التي يشارك فيها الجيش الآن تحتاج إلى إعادة نظر شاملة تقطع مع الاستسهال ومع التبذير
وتقلص نصيب الفرد التونسي من المياه إلى ما دون 420 مترًا مكعبًا سنويًا، في حين أن المعدل العالمي لشح المياه هو 500 متر مكعب للفرد. وبدأت أزمة الري في كل تونس نتيجة انخفاض مخزون السدود إلى مستويات قياسية بسبب شحّ الأمطار. وسريعًا ما بدأت آثار الأزمة تظهر، حيث تقلّصت المساحات الزراعية ما يهدد تزويد الأسواق بالمنتوجات الزراعية.
ووفق بيانات للمرصد الوطني للفلاحة، فقد تراجع مخزون المياه إلى 586 مليون متر مكعب حتى يوم 6 أكتوبر الماضي، مقابل مستوى بلغ نحو 788 مليون متر مكعب في نفس الفترة من العام الماضي. وبات معدل التخزين أقل من 30 في المئة في مجمله، ووصل معدل أكبر السدود، وهو سد سيدي سالم في وادي مجردة، شمال البلاد إلى 15 في المئة.
وهناك مشكلة أخرى تواجه البلاد، وهي الاستخراج غير المدروس للمياه الجوفية، حيث نشطت المبادرات الخاصة لحفر الآبار في أماكن كثيرة، وبعضها يستعمل للسقي، والبعض الآخر للمياه المعلبة. وتكاثرت الشركات التي تستخرج هذه النوعية من المياه، ما يكشف عن الاستسهال الكبير في الحصول على الرخص من الجهات الحكومية محليا ومركزيا، خاصة أنها تعطى لرجال أعمال معروفين، ما يؤكد غياب رؤية رسمية تجاه المياه الباطنية أو الجوفية.
ولا تمتلك الحكومة دراسات دقيقة عن إمكانيات وحدود المائدة المائية لتونس، وعن مواقعها وحجمها، وهو ما يفسر ترك إدارتها للمبادرات الخاصة بدلا من أن تتحكم فيها هي وتعطي الرخص حسب مقاربة دقيقة.