الحماية والملاذ الآمن ركيزتان أساسيتان في بناء شخصية الطفل

رغم أهمية الدور الذي يلعبه الأب في حياة الطفل ووجوده في الأساس، إلا أن المفهوم السائد عادة يرّجح وجود الرابط المعنوي الأقوى بين الطفل ووالدته بما اصطلح على تسميته “الأمومة”، هذا الرابط الذي لا يوازيه ولا يعوضه شيء. ومع ذلك، خرجت دراسة حديثة بنتائج مخالفة تماماً لهذه النظرية، في إشارة واضحة إلى أن هذه الرابطة القوية موجودة بالفعل بين الأب والطفل، خاصة في ظل غياب الأم وهذا من شأنه أن يعيد تسليط الضوء على الدور المهم الذي يقوم به الأب في تنمية الطفل عموماً.
كان البحث المقدم من جامعة ولاية أوريغون الأميركية، الذي حمل عنوان “مرونة دماغ الأب” ونشر في دورية “الأكاديمية الوطنية للعلوم”، قد أشار إلى أن التحولات الاجتماعية والثقافية الهائلة التي تشهدها المجتمعات البشرية عموماً، ضاعفت من فرص مشاركة الآباء في تربية الأبناء ورعاية الرضع بصورة خاصة.
ورصد البحث عملية فحص لأدمغة آباء أثناء مشاهدتهم أفلام فيديو توضح طريقة تفاعلهم مادياً ومعنوياً مع أطفالهم، إذ تمت في التجربة عملية تحفيز نوعين من النشاط الدماغي، يتعلق أحدهما بالاستجابة العاطفية بينما يوضح النوع الثاني الاستجابة العقلية للموقف، حيث سجل الآباء الذين شغلوا – في الواقع- أدواراً ثانوية في العناية بأطفالهم مقارنة بالأمهات، ردود فعل عاطفية أقل من الأمهات.
التواجد الكمي للأب لا يقارن بأهمية التواجد الفعلي إذ يمتلك بعض الآباء مهارة التواجد في الوقت المناسب
في الإطار ذاته، تؤكد الدكتورة سوزان نيومان الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي، على أن أدوار الأفراد في المنزل قد شابها نوع من التغيير في العقود الأخيرة حيث ازداد عدد الآباء الذين اختاروا الجلوس في المنزل للعناية بالأبناء، لتقديم الدعم اللازم للزوجات اللاتي يعملن خارج المنزل ويتحملن مسؤولية الإنفاق على الأسرة، ولم يعد الأمر يسبب الإحراج للرجال الذين يقومون بهذه الأدوار التي أصبحت رائجة بسبب حصول بعض السيدات على فرص عمل ممتازة مقارنة بشركائهن من الرجال.
وترى نيومان صاحبة مؤلفات تتعلق بالتحديات التي تواجه أحد الشريكين في تربية الأطفال بغياب الأم أو الأب، بسبب حالات الانفصال أو موت أحد الوالدين، بأن الدراسات السابقة ركزت في معظم الأحيان على المقاييس الكمية أي مقدار الوقت الذي يمضيه الأب مع أطفاله، فيما كشفت الدراسات الحديثة عن أهمية العامل النوعي أي كيفية تمضية هذا الوقت وطريقة التفاعل العاطفي بين الطفل والأب، حيث ينطوي سلوك الأبناء مع الآباء على الكثير من احترام استقلالية الطفل وتدريبه على الثقة بالنفس والاعتماد على القدرات الذاتية مع وجود عنصر الرقابة والنصح، فيما أشارت الدراسات المتخصصة في علم نفس الطفل إلى أن بعض الآباء لا يتمتعون بأوقات طويلة لقضائها مع أبنائهم لأسباب عدة أبرزها انفصال الأبوين ومسؤوليات العمل، إلا أن التواجد (الكمي) للأب لا يقارن بأهمية التواجد (الفعلي) له إذ يمتلك بعض الآباء مهارة التواجد في الوقت المناسب ومتى ما كان الطفل في حاجة فعلية لهم.
طبيعة التفاعلات بين الأب والطفل في عمر الرابعة مثلا، ذات صلة وثيقة بالمهارات الاجتماعية في المستقبل، حيث يعزز التفاعل الإيجابي
وأظهرت هذه الأبحاث أن طبيعة التفاعلات بين الأب والطفل في عمر الرابعة مثلاً، ذات صلة وثيقة بالمهارات الاجتماعية في المستقبل، حيث يعزز التفاعل الإيجابي مهارات مهمة في تكوين الشخصية السوية مثل التعاون مع الآخرين وتحقيق الذات وتحمل المسؤولية مبكراً إضافة إلى ضبط النفس. كما أن التفاعل الإيجابي مع الطفل لا يشترط فيه أن يمتلك الأب موارد مالية كبيرة أو شخصية مثالية، فالتفاعل يرتبط أكثر بالمهارات الاجتماعية للأب حتى مع وجود عوامل أخرى يمكنها أن تؤثر في هذا التفاعل لتزيحه أو تعززه مثل الحالة الاجتماعية والاقتصادية للأسرة ومدى تأثير الأم في الطفل. على أن علاقة الأبوة أكثر تعقيداً مما نظن، حيث يحث الآباء الصغار على قبول التحديات بكل ثقة بسبب شعور الطفل بالحماية التي يوفرها وجود الأب، إلا أن وجود الأم لا يقل أهمية في مرحلة الطفولة أيضاً بتوفيرها ملاذاً آمناً لصغارها، فالحماية والأمان هي الركائز التي تنبني عليها شخصية الطفل في المراحل المبكرة من حياته.