الحمار حمّال معان في لوحات المصرية مريم حتحوت

اختارت الفنانة المصرية مريم حتحوت أن تكسر تابوهات الثقافة الشعبية، والتي تنظر إلى الحمار على أنه غبي ويستغله الجميع ويقبل الضرب والإهانة، فكان ولا يزال رمزا للتهكم والسخرية بين البشر، فخصصت معرضها الفردي الجديد للحمار وعنونته بـ“تنويعات على الحمار”، ليقدم إلى زائره لوحات مفعمة بالألوان ومبهجة، تهتم كلها بهذا الكائن الذي أحبته الرسامة وتقول إنه أصبح صديقها في الفن وبطلا للعديد من لوحاتها.
قد يفتن الفنان بالطبيعة فينذر لوحاته لتصوير مشاهد مثيرة منها، ويجعلها أشبه بصور ترصد سلسلة من التغيرات الدورية التي تترك آثارها على الأرض والشجر، وربما تسحره الشمس والقمر، أو حتى البشر بثقافاتهم وسلوكهم وثيابهم، فيحول أعماله الفنية حكايات، ونصوصا بصرية توثق الحياة وتؤرخ للشعوب، لكن من النادر في الفن التشكيلي أن تتعلق ريشة الفنان وموهبته بحيوان دون الآخر، فتراه يصوره في أغلب لوحاته، فيصبح كظله، لا يفارقه البتة، بل لا ينفك يلهمه فيعيد التعبير عنه.
هذا ما حصل مع الفنانة التشكيلية المصرية مريم حتحوت، التي أحبت الحمار، ذلك الكائن الذي صار في عصرنا رمزا للتندر والاحتقار، فحولته من “حمال أسية” إلى “حمال معان” ورسائل وإشارات، لا يسهل فهمها.
ويحمل معرضها عنوان “تنويعات على الحمار” ويستمر حتى الثالث والعشرين من فبراير الجاري، في غاليري ديمي بالقاهرة.
اللون هو السيّد
تبدو لوحات الفنانة حتحوت في هذا المعرض ولمن يتأملها للوهلة الأولى أنها أشبه بـ”شخبطة” طفل أو أطفال طلب منهم رسم الحمار كما يريدون، بألوان صارخة، وملامح غير واضحة ولا شديدة التناسق، لكنها في الحقيقة رسومات قد تعكس روح الطفل في داخل حتحوت، التي تسعى إلى جانب عملها الفني لحماية الحيوانات والدفاع عنهم وتضمينهم في لوحاتها الانطباعية.
ولم تخصص الفنانة معرضا بأكمله للحمار قبل الآن، فهي منذ العام 2007 احترفت الرسم وتنظم معارض سنوية، ورغم أن الحمار كان دائم الحضور في لوحاتها إلا أنها خصصت الجانب الأكبر من أعمالها السابقة للحياة والثقافة المصرية، وبينما تصور في الغالب المصريين في الأحياء الفقيرة، فإنها تحافظ على الألوان الزاهية والجريئة ما يعكس إحساسا بالمرح.
وتحب حتحوت عرض النساء المصريات الممتلئات وهن يرتدين الجلابيات؛ حتى الرجال في لوحاتها يرتدون الجلابيات ولديهم شوارب ثقيلة تشبه الرجال الذين نراهم في الأفلام المصرية القديمة، وهي تصورهم بعيدا عن الواقعية المفرطة، وإنما تخلق لهم ألوانا وأشكالا خاصة بها، تحافظ على حقيقتهم وتضيف لهم بعضا من خيالها.
وفي هذا المعرض “تنويعات على الحمار” يحضر حمار حتحوت بكل حالاته، فهو تارة حمار مرهق، وأخرى حمير مجتمعة، وهو أيضا حمار سعيد، هو حمار منضبط، وهو كذلك حمار يؤدي مهامه بدقة، فيحمل أصحابه نحو وجهتهم، لكنه في كل أعماله يحضر حمارا ملونا، كما هي أعمال الفنانة جميعها فاللون لديها هو البطل الرئيسي للعمل التشكيلي.
وتصف حتحوت أسلوبها بأنه مزيج من الوحشية والانطباعية، حيث لا تميل إلى مدارس فنية أخرى، بل تختار إيلاء الكثير من الاهتمام بالتفاصيل، بتبسيط الأشكال وتلوينها بألوان صارخة ومتفجرة تجعلها أشبه بالرسم البدائي.
وحول معرضها كتبت الفنانة “لیه الحمار واشمعنى الحمار! اسمحلي أقتل فضولك وأجاوبك على أكثر سؤال اتوجه لي في مسيرتي الفنیة، لیه الحمار؟ الحمار حیوان غلبان مظلوم مسكین حمول وحمال أسیة، صبور مطیع وفيّ لصاحبه وذكي جدا، بحبه جدا وبحب أرسمه”.
ولأنها تحب الحمار، سبق أن عرضت الفنانة لوحاتها في محمية للحمير في إنجلترا وهي ما تنفك تؤكد أن “الحمير متواضعة وذكية وتعمل بجد؛ لكن هذه ليست الطريقة التي تعامل بها. على العكس من ذلك، ينظر الناس إليها بازدراء، خاصة عندما يقارنونها بالخيول”، لذلك اختارت أن يكون الحمار صديقها في رحلتها الفنية، به تثري تجربتها التشكيلية وتخط لنفسها أسلوبا مختلفا.
حضور مقدس

لا تصور لوحات حتحوت الحمار كما تنظر إليه الثقافة الشعبية، حيث يأتي ذكره دائما كرمز للغباء أو العناد أو الاستسلام للقدر، وهو يتعرض للضرب دون شكوى، ويفني عمره في خدمة ما لا يعود عليه بالنفع وله صوت ينكره كل من يسمعه، لكن حمار الفنانة ينطق في كل لوحاتها بنظرتها الخاصة نحوه وبما تلمسه فيه من لطف وهدوء وتفان.
والحمار الذي تعرضه حتحوت بأسلوبها المميز، لا يمكن إلا أن يذكرنا بحضور هذا الحيوان في الفن التشكيلي، وخاصة أعمال الفنانين المصريين، أبرزهم الفنان محمود سعيد (1897 – 1964) الذي يعد من رواد الفن في مصر ومن أوائل مؤسسي المدرسة المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية.
وحضر الحمار أيضا في أعمال أشهر الفنانين التشكيليين في العالم ومن أهمها لوحة “دخول المسيح إلى أورشليم” للفنان الإيطالي جوتو (1266 – 1337) التي صور فيها أن المسيح يعتلي حمارا أثناء دخوله إلى القدس.
ويعود الحضور الأكبر للحمار في التاريخ المصري، إلى عهد الدولة القديمة، حيث كان يستعمل لحمل الأثقال، ومنذ عهد الأسرة الفرعونية الخامسة عثر له على رسوم عدة؛ أحدها يصور حمارين يحملان محفة بينهما لجلوس موظف للتفتيش على أعمال الحقول.
وكان الحمار يتخذ منزلة كبيرة في الديانات المصرية واليونانية والرومانية قديما، حيث صورت بعض الآلهة على هيئة حمار، أو هي تحمل جسدا هجينا، نصفه بشري ونصفه الثاني لحمار، وعادة ما كان يتم تجسيد الحمار تقديرا لتفانيه في العمل وقدرته على السير لمسافات طويلة دون تعب.
وخلدت جدران معبد حتشبسوت صورا للحمار يقول علماء الآثار إنها تعود إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة (1292م) وهي أول أسر المملكة المصرية الحديثة.
ولا يأتي تقديس الحمار كأمر اعتباطي إنما ارتبط بتقديس المصريين القدماء للحيوانات التي تتصل بحياتهم، التي يستشعرون فيها وفي سلوكها حكمة بليغة، فهم لم يقدسوا الحيوان لذاته، إنما قدروا فيه سرا من أسرار الخلق، وقد اعتبر الحمار رمزا للإله “ست”، الذي كان يمثل روح الشر والذي كان إله الصحراء، والعواصف، والأجانب في الديانة المصرية القديمة، ثم صار في الأساطير اللاحقة إله الظلام والفوضى، وكانت التضحیة للإله تتم خلال بعض المراسم الدينیة، بواسطة الخنزير والحمار.

واستعان الفلاحون المصريون بالحمار في أعمال الزراعة وكان المصريون القدماء يعتمدون عليه أيضا في القوافل التي كانت تعد أهم وسائل المواصلات آنذاك.
وتبدو حتحوت وكأنها ورثت من أجدادها القدامى حبهم وتقديسهم لهذا الحيوان، فصار بطل أعمالها تصوره بألوانها المليئة بالحياة وتعبر من خلالها عن جمال الريف المصري والطبيعة وهو أيضا شعارها للدفاع عن حقوق الحيوان في الشرق الأوسط، فرمزية الحيوان في الشرق تختلف كثيرا عن الغرب، ولعل الحمار خير دليل على ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن مریم حتحوت، صاحبة “تنويعات على الحمار”، حاصلة على بكالوريوس الفنون الجميلة في العام 2002، أقامت حوالي عشرين معرضا فرديا في مصر، ومعارض فردية خارجها منها معارض في سويسرا وألمانيا وإنجلترا، وشاركت في معرض ثنائي في فینیسیا، كما شاركت في عدة معارض جماعية في النمسا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا والكويت ومالطا والسويد وفنلندا ولبنان والمغرب والسعودية والإمارات، ولها مقتنيات خاصة في ألمانیا وإيطاليا والولايات المتحدة وأستراليا وبلجيكا والسعودیة والإمارات العربية المتحدة وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وصربیا وقطر وليبيا.