الحل في تونس بالإصلاحات وليس بالقروض

تونس تنتظر الحل الذي يأتي من الخارج وترى أن لا حل في الداخل.
الأحد 2022/11/06
قروض لا تجدي نفعا

يناقش الجميع أخبار القروض والمساعدات المالية وكيفية الحصول عليها ومدى قدرتها على تطويق الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها البلاد. بمعنى أوضح، تونس تنتظر الحل الذي يأتي من الخارج وترى أن لا حل في الداخل، وحتى الحديث عن إصلاحات فيقف مفهومه عند حد واضح: كيف يمكن توظيف مساعدات الخارج لإسكات الأزمة ولو إلى حين، وهو أمر تفعله حكومة نجلاء بودن حاليا وفعلته قبلها حكومات سابقة كانت توظف القروض المخصصة للإصلاحات في شراء السلم الاجتماعي ووقف السيل الجارف للمطلبية الذي قاده ويقوده اتحاد الشغل.

تظهر حكومة بودن بوجوه متعددة، فهذه وزير المالية تتحدث عن أن رفع الدعم، وخاصة عن المحروقات بات أمرا واضحا، والوزير الآخر يقول إن تونس لن ترفع الدعم ولن تتخلى عن الفئات الضعيفة، والثالث يتحدث عن توسيع دائرة التونسيين الذين سيحصلون على منح تعويض مقابل رفع الدعم إلى ثمانين في المئة.

وتؤكد هذه التناقضات حالة من الارتباك لدى الحكومة وحتى لدى الرئيس قيس سعيد نفسه، فقرارات الإصلاح ليست أمرا سهلا، والذي يقدم على تنفيذها يعرف أنه سيدفع الثمن غاليا على شعبيته في بلد تعود ناسه على أن الدولة هي التي تتحمل الصدمات مكانهم، وأنهم لا يدفعون أي فاتورة بل على الدولة أن تتداين وتستعمل صداقاتها لتحل الأزمة قبل أن تصل إليهم.

ليس دور الدولة فقط أن تنفق بل عليها أن تستثمر أيضا لكن هذا يحتاج إلى تغيير العقلية التي تقارب بها الإصلاحات، وأن تحسب حساب المستقبل وتتجاوز المخاوف المباشرة وتنفذ ما ترى أنه خيار إستراتيجي لإخراج البلاد من أزمتها

هذه هي المعضلة أو المفارقة التي تقف في وجه الإصلاح، لا أحد يريد أن يقترب من هذا الحقل الملغوم فيتفجر في وجهه. وهذا ما يفسر عجز ثورة 2011 لحد الآن عن تنفيذ إصلاحات اقتصادية بالرغم من أن الوضع كان يسمح بإحداث تغييرات جذرية دون تهديد استقرار الدولة كما هو حاصل الآن.

لم تُحدث الإصلاحات السياسية والديمقراطية الباذخة وشعارات الأمل الثورية أي تغيير على المستوى الاقتصادي ببساطة لأنها نظرت إلى الثورة من جانبها الطوباوي الذي يعني انتصار الفرد/ القيمة/ الحرية على الدولة، وليس تطوير إمكانيات الدولة وتحسينها لخدمة الناس.

كانت الثورة تعني هزيمة الدولة، ثم لاحقا توظيفها لخدمة أجندات المنتصرين، وتحقيق أكبر المكاسب على المستوى السياسي بالشكل الذي يحدث ثغرات في الدولة ويسهّل اختراقها وتطويعها.

وهذا أمر يعود إلى تراكمات تجارب الدولة الوطنية نفسها التي أعطت الأولوية لسلطة القوة على التغيير متعدد الأوجه، وهذا ما سقطت فيه الثورة وإن كانت غيرت تفاصيل اللعبة وأدوارها، لتصبح فوضى الحرية مقابل سلطة القوة، وكلاهما وقف باللعبة عند وجهها الأمني السياسي وترك البنى التحتية الناظمة لأي تغيير معطلة ومتروكة لإصلاحات عشوائية أو شعبوية تتراوح بين اشتراكية تعاضدية بدائية أو ليبرالية مقصقصة الجناح، حيث تتدخل الدولة وتوجه بخلفية الاستثمار السياسي.

الآن “وقفت الزنقة للهارب” كما يقول المثل التونسي، أي سّدت كل الأبواب أمام الأسلوب القديم في إدارة الملف الاقتصادي والمالي خاصة بعد أن كسرت الثورة التوازن المعقد الذي كانت تقيمه الدولة بين الاستحواذ السياسي والإصلاحات الاقتصادية الخادمة للفئات المهمشة ولو بالحد الأدنى.

بعد الثورة، وطالما أن الطبقة السياسية محكومة بالشعارات وتريد إثبات قدرتها على الحكم، فقد كانت خطواتها مبنية على استنفاد كل طاقات الدولة لكسب ود الشارع وإظهار أن الثورة أفضل مما قبلها، حيث ركزت الحكومات المحسوبة على الثورة على توظيف الآلاف من الشبان في القطاع الحكومي وإغداق الأموال على الموظفين من خلال زيادة الرواتب والعلاوات والمزايا التي تسهل عليهم عيشهم. كما وظفت عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل ممن لديهم شهادات جامعية ومن لا يملكون شهادات في مهن وهمية (الحظائر وشركات البستنة) وبطرق التفافية (نظام الآليات).

وكل هذه العناصر أفضت إلى رفع كتلة الأجور في الموازنة على حساب الأموال المرصودة لتحسين الخدمات في مجالات حيوية مثل الصحة والتعليم وتنفيذ المشاريع الكبرى على مستوى البنى التحتية مثل الطرقات السيارة وشبكة سكك الحديد والقطارات السريعة التي كانت ستحل مشاكل النقل في العاصمة والأحياء الشعبية المحيطة بها.

هذه هي المعضلة أو المفارقة التي تقف في وجه الإصلاح، لا أحد يريد أن يقترب من هذا الحقل الملغوم فيتفجر في وجهه. وهذا ما يفسر عجز ثورة 2011 إلى حد الآن عن تنفيذ إصلاحات اقتصادية

والنتيجة، أنه تم استنفاد قدرات الدولة التي لم تعد قادرة ماليا على توظيف الآلاف من الموظفين الجدد كما تريد النقابات، ولا تنفيذ اتفاقيات مع حكومات سابقة بشأن زيادة الرواتب. وتزامن هذا مع تشدد المؤسسات المانحة التي تعترف بأنها لم تضغط بالشكل الكافي على الحكومات السابقة لدفعها إلى توظيف المساعدات والقروض في الاستثمار وتحريك دواليب الاقتصاد المربك.

الآن الدولة أمام معادلة صعبة: إما الإصلاحات أو توقف المساعدات. وحتى لو أرادت الحكومة أن تستمر في لعبة شراء السلم الاجتماعي فلم يعد بمقدورها ذلك، وستجد نفسها مجبرة على تنفيذ الإصلاحات ودخول الحقل الملغوم الذي هرب منه الجميع، حقل الإصلاح الهيكلي الذي يطالب به صندوق النقد منذ ثمانينات القرن الماضي.

ومن المهم التأكيد أن الإصلاحات المطلوبة سيتم تنفيذها خدمة لتونس وليس لإرضاء صندوق النقد، فرفع الدعم الهدف منه تقليص الإنفاق الحكومي على مجالات وضخه في مجالات أخرى خاصة أن الدعم الحكومي للمواد الأساسية طيلة عقود لم يحسن أوضاع الناس من ناحية، ومن ناحية أخرى كان قد حال دون تدوير تلك الأموال وضخها في مجالات أخرى مثل الاستثمارات التي تقدر على خلق مواطن العمل ومساعدة الدولة على استعادة ما تنفقه في شكل ضرائب ومساهمات للصناديق الاجتماعية.

ليس دور الدولة فقط أن تنفق بل عليها أن تستثمر أيضا لكن هذا يحتاج إلى تغيير العقلية التي تقارب بها الإصلاحات، وأن تحسب حساب المستقبل وتتجاوز المخاوف المباشرة وتنفذ ما ترى أنه خيار إستراتيجي لإخراج البلاد من أزمتها. لأجل هذا لا يمكن الحديث عن إصلاحات ظرفية أو إصلاحات شكلية تتجنب لاءات اتحاد الشغل أو تسعى لعدم الاصطدام بالناس، فليس هناك شيء يرضي الجميع، والحكومة يفترض أنها مؤتمنة على التغيير ولا بد أن تتحمل مسؤوليتها في مواجهة الحقوقية ومصارحة الناس بها.

6